الطريقة جدلية:هل المنطق الصوري يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ؟
المقدمة:
إن المنطق قديم قدم الإنسان نفسه ،فالإنسان منذ أن وجد وهو يفكر و يستدل و يبحث دون معرفة قواعد المنطق،إلى أن جاء الفيلسوف اليوناني أرسطو و هذب قوانينه و أرسى قواعده وجعله علما يعصم الفكر من الوقوع في الخطأ،ولقد كان هناك إختلاف بين الفلاسفة حول أهمية المنطق وحول كونه كافيا لتوافق جميع العقول،فمنهم من يؤكد أن قواعد المنطق كافية لضمان العقل حتى لا يقع في الخطأ ، و البعض الآخر يعتبر أن قواعد المنطق ناقصة و لايمكن أن تضمن للعقل ذلك ،فهل هذه القوانين كافية لتوافق جميع العقول حتى لا تقع في الخطأ؟
التحليل:
الموقف الأول:أنصار المنطق الصوري
يذهب أنصار الموقف الأول إلى القول بأن قواعد المنطق الصوري كافية لتوافق جميع العقول ونجد منهم "أرسطو، الفرابي،أبوحامد الغزالي،إبن سينا،بوانكاريه،لايبنز"
حيث يذهب المعلم الأول أرسطو إلى المنطق الصوري هو مجموعة من القواعد تؤمن الفكر من الوقوع في الخطأ وهو يطرح مطابقة الفكر مع نفسه من حيث دراسة الأفكار وفقا لمبادئ العقل (الهوية,عدم التناقض,الثالث المرفوع,السببية)ومنه يدرك العقل أي تناقض يقع فيه. بالإضافة إلى أن القياس هو العملية المنطقية الوحيدة المحققة لليقين الذي هو الكمال المنشود من الناحية المنطقية.
و هو مانجده في العصور الوسطى خصوصا عند كبار الفلاسفة المسلمين الذين يؤكدون على أن المنطق الصوري هو أصدق معيار يمكن الاستعانة به لدراسة العلوم،وأداة يجب تحصيلها قبل البدء في أي نوع من البحوث فسموه بعلم المنطق تارة و بعلم الميزان تارة أخرى،فعرفه ابن سينا في كتاب "النجاة":" هو الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ"،وأعتبره الفرابي "رئيس العلوم" حيث يقول:" فصناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل و تسدد الإنسان نحو طريق الصواب"،وقد ذهب بعض الأصوليين الى أن تعلم المنطق فرض كفاية على المسلمين و هذا ماعبر عنه أبو حامد الغزالي الذي قال:" إن من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا".
وهذا ما يذهب إليه العديد من الفلاسفة المحدثين على غرار الفيلسوف الفرنسي هنري بوانكاريه الذي يرى أنه لا يمكن إضافة أي شيء لما كتبه أرسطو في مجال المنطق لأنه كامل و مكتمل من الجوانب "مبحث التصورات،مبحث القضايا،مبحث الأحكام"، والرأي نفسه نجده عند الفيلسوف لا يبنز الذي يرى المنطق يحتوي على مباديء تعتبر قوانين تنظم و تحكم أفعال العقل الإنساني و توجه معارفه وهذا مانجده في قواعد التعريف المنطقي، و في أنواع الإستدلال، و شروط القياس، ومباديء العقل حيث يقول:"إنها ضرورية للتفكير كضرورة العضلات و الأوتار العصبية للمشي".
ومن هنا اعتبر المنطق الصوري أسمى أسلوب لضمان إتفاق العقول و انسجامها و توحيد حمكها ذلك أن العقل هو أعدل قسمة بين الناس.
النقد:
لقد بالغ أصحاب الموقف الأول في دفاعهم عن المنطق الأرسطي ،ذلك أنه وبالرغم من الأهمية الكبيرة للمنطق الصوري الذي كان و لايزال الاساس الأول للكثير من العلوم إلا أنه يبقى ناقصا ذلك أنه إجتهاد بشري يعتريه النقص و لا يرقى إلى الكمال مهما كان فيه من مجال الإبداع، و غير كاف خصوصا مع التطور الكبير الذي مس شتى مجالات العلوم.
الموقف الثاني: خصوم المنطق الصوري:
يذهب أنصار الموقف الثاني إلى القول بأن التحصن بقواعد المنطق و التعرف على آلياته و صوره المختلفة لا تعني بالضرورة العصمة من الخطأ و توافق جميع العقول ومن بين هؤلاء نجد العديد من المفكرين و الفلاسفة من بينهم ابن صلاح الشهرزوري، ابن تيمية،ديكارت،غوبلو.
وهذا ما يذهب إليه المفكر الإسلامي إبن صلاح الشهرزوري الذي يقول " فأبو بكر و عمر و فلان وصلوا الى الغاية من اليقين و لم يكن أحد منهم يعرف المنطق" فحرم الاشتغال بالفلسفة و المنطق تعليما و تعلما حيث قال أيضا:" الفسفة شر، والمنطق مدخل الفلسفة، و مدخل الشر شر" وكان هناك قول شائع بين العرب و المسلمين "من تمنطق تزندق"، و الرأي نفسه عند شيخ الاسلام ابن تيمية الذي يرى بأن المنطق الصوري الأرسطي لا فائدة منه ولا قيمة ترجى من دراسته لأنه مجرد آلة عقيمة يقيد الفكر بقواعده الكثيرة المملة حيث يقول:"إنه منطق متعلق بتربة اليونان".
وهذا ما يذهب إليه بعض فلاسفة العصر الحديث بداية من الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت الذي يرى المنطق الصوري منطق شكلي يدرس التفكير دون البحث في طبيعة الموضوعات التي ينصب عليها بحسب الواقع،ضف إلى ذلك أن قواعده ثابتة لا تقبل التطور مهما كانت المضامين و أنه منطق عقيم لا يصل إلى نتائج جديدة فهو مجرد تحصيل حاصل يقول ديكارت: إن اليقين الأرسطي يقين أجوف"، و الرأي نفسه عن الفيسلوف غوبلو الذي يرى أن المنطق الصوري منطق عقيم يعتمد على لغة الألفاظ التي تؤدي إلى المغالطات مثلا:
الهروب من المعركة جبن
الجبن من مشتقات الحليب
الهروب من مشتقات الحليب.
وعليه فالمنطق الصوري يصلح للمناقشة و الجدل ،لا معيار للحقيقة و اليقين و لا يساير و اقع الأحداث المتغيرة مثلا نجد في مجال الفيزياء عند التحدث عن طبيعة الضوء أو حركة الإلكترون نجد أن مباديء العقل "كمبدأ الهوية، مبدأ عدم التناقض، مبدأ الثالث المرفوع"أصبحت مباديء غير صالحة مما أدت الحاجة الى ابداع صور و اساليب منطقية جديدة تتناسب و ظروف العلم في العصر الحديث كالمنطق الرياضي، المنطق المتعدد القيم،المنطق الجدلي.
النقد:
لقد بالغ خصوم المنطق الصوري في نقدهم الكبير لمنطق أرسطو متناسين و متجاهلين الفضل الكبير لهذا الأخير في إرساء معالم علم جديد ساهم بقسط كبير في تطور العلوم و مناهج البحث العلمي، وعليه و رغم سلبيات المنطق إلا أن له فائدة كبيرة في إبعاد الفكر من الخطأ وتعليمه مبدأ الاستنتاج واستعمال الحدود بكيفية سليمة فلا يمكن أن ننكر هذا المجهود الفكري.
التركيب:
إن العقل الأنساني يملك القدرة على الانتقال من المعلوم الى المجهول و الناس في محادثتهم اليومية و في مناقشاتهم يسيرون على مقتضى المنطق فهو الاسلوب الذي يساعدنا على تصحيح تفكيرنا وهو أداة التفكير الصحيح لكنه ناقص و بحاجة الى الدراسات الحديثة.
وحسب رأيي الشخصي فإن المنطق الصوري ضروري في عملية التفكير و لا يمكن الإستغناء عنه لأننا وبمراعتنا لقواعده نعصم أنفسنا من الوقوع في الخطأ إلا أنه غير كاف خصوصا مع التطور الكبير الذي مس مجالات العلم الحديث و هذا ما أدى إلى ضرورة اللجوء إلى أنواع أخرى من المنطق حتى تسدد النقص و العيوب التي تكتسي المنطق الصوري.
الخاتمة:
في الأخير و من خلال ما سبق نستنتج أن المنطق الصوري هو أداة ضرورية لعملية التفكير و لايمكن الاستغناء عنه ،لكن هذا لا يعني بالضرورة وجود النقص فيه،لهذا فهو دائما بحاجة الى إبداعات منطقية جديدة كي تساير العصر و تساهم في تطور العلوم.