تعريف اللغة - نشأتها
تعريف اللغة
عرّف علماء النفس اللغة، فرأوا أنها مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن حالات الشعور، أي عن حالات الإنسان الفكرية والعاطفية والإرادية، أو أنها الوسيلة التي يمكن بواسطتها تحليل أية صورة ٍ أو فكرةٍ ذهنيةٍ إلى أجزائها أو خصائصها، والتي بها يمكن تركيب هذه الصورة مرّة أخرى بأذهاننا وأذهان غيرنا، وذلك بتأليف كلماتٍ ووضعها في ترتيبٍ خاصٍ. وهذا التعريف يتضمّن وظيفة اللغة إجمالاً [عبد المجيد اللغة العربية، ص 15]
ويرى الدكتور أنيس فريحة أن اللغة أكثر من مجموعة أصواتٍ وأكثر من أن تكون أداةً للفكر أو تعبيراً عن عاطفةٍ، إذ هي جزءٌ من كيان الإنسان الروحي، وأنها عمليةٌ فيزيائيةٌ بسيكولوجية على غايةٍ من التعقيد. [فريحة: محاضرات في اللهجات، ص 9] وكان العلامة ابن خلدون قد عرّفها – من قبل – ببساطةٍ ووضوحٍ، حين قال: اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل اللسان، فلابد أن تصير ملكةً متقرّرة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمةٍ بحسب اصطلاحاتهم. [ابن خلدون: مقدمة، ص 546 ]
وهناك تعريفات عديدة أخرى، تتفق حيناً وتختلف حيناً آخر. ولعلّ مصدر التباين في هذه التعريفات ناشئٌ عن منطلقات أصحابها الفكرية. فمن تعريف وصفي ٍ خارجيٍ ، إلى تعريف نفسيٍ داخليٍ ، إلى آخر يمثل نظرة فلسفيةً معينةً لواقع الإنسان ووجوده و نشأته.
علماً أن الناظر إلى واقع اللغة الإنسانية – وصفاً و تقريراً – يجد أنها أصوات وألفاظ و تركيب منسقة في نظامٍ خاصٍ بها، لها دلالاتٌ ومضامين معينة ، يعبّر بها كل قومٍ عن حاجاتهم الجسدية وحالاتهم النفسية ونشاطاتهم الفكرية، أي أنها أوعيةٌ هوائية بمضامين نفسيةٍ وفكريةٍ.
فالناحية الآلية فيها أن الصوت هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لاحتكاك الهواء في مواقع عضويةٍ معينةٍ في الجهاز الصوتي، بدءاً من رئة الإنسان، مروراً بالحبال الصوتية في الحنجرة، ووصولاً إلى المخارج الصوتية في الفم، تلك المخارج التي تعطي لكل صوتٍ شكلاً مميزاً، يتآلف مع صوتٍ آخر أو أصوات عدة، لتكوين الكلمة المفهومة عند النطق بها، وإذا لم تكن هذه الأصوات ذات دلالات رمزيةٍ مفهومةٍ عند المخاطب بها، فإنها تبقى في نطاق الأصوات العشوائية التي لا تختلف بشيءٍ عما يصدر عن الحيوان، تعبيراً عن حاجة عضوية تتطلب الإشباع، أو أن تكون استجابة لغريزةٍ تحرك مشاعره الوجدانية، أو صدى لأحاسيسه الفسيولوجية الداخلية.
ولعلّ هذا الواقع هو الذي دعا علماء المنطق – في الماضي – إلى تسمية الإنسان بـ "الحيوان الناطق" أي القادر على استعمال لغةٍ صوتيةٍ لها دلالاتٌ فكريةٌ، تساعده على التفاهم مع غيره من بني جنسه ، ليسير في طريق الرقي الإنساني، في الوقت الذي ظلّ فيه الحيوان يعيش عُجمته البدائية الثابتة التي فطره الله سبحانه و تعالى عليها.
ثم تأتي الكتابة لتحوّل الرموز الصوتية إلى رسومٍ مكتوبةٍ، وبذلك أصبحت تلك الأصوات المتناسقة – فيما بينها – من حروف، ومقاطع، وكلماتٍ، وتراكيب لغويةٍ، تُخطّ كتابةً، وغدت الأصوات المنطوقة لساناً، مادةً تبصرها العين و يقرأها الإنسان.
أمّا اللغة – لغةً – فهي لفظةٌ على وزن " فًعَة " مثل " كُرة " وأصلها " لُغوة " على وزن " فُعلة "، وقيل في جمعها: لغات، لُغون. ومنها لَغٍيَ: يَلغَى، إذا هذى. [اللسان: لغو] وكذلك اللغو، فقد قال الله تعالى : {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [سورة الفرقان: الآية 72]
أي مروا بالباطل. وجاء في الحديث الشريف: "من قال في الجمعة: صَه، فقد لغا"، أي تكلم. [ابن جنيّ: الخصائص ، 1 / 31]
نشأة اللغة
اختلف العلماء الغربيون في أصل اللغات ونقطة البداية فيها، فمن قائل إنها هبة الله إلى أهل الأرض ميّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، أي أنها ذات أصل إلهي، ومن قائل إنها من صنع الإنسان واختراعه. [لم يكن هذا الاختلاف حديث العهد عند العلماء، فأول من بدأ بالتحليل اللغوي الفلسفي هو سقراط نفسه، كما جاء في كتابات أفلاطون، حينما بحث في ظاهرة اللغة، وهل هي تواضع واصطلاح أم هي وحيٌ وتوقيف (بشاي: محاضرة بكلية الآداب بجامعة القاهرة في 27 / 2 / 1974]
وقد استند الفريق الأول إلى ما جاء في الكتاب المقدس. فقد ورد في سفر التكوين أن اللغة أعظم الهبات التي وهبها الله للإنسان وأهمها، وبها أصبحت لديه القدرة على تسمية الأشياء و تقسيمها. [الكتاب المقدس: سفر التكوين]
وقد اخذ بهذا الرأي الفيلسوف روسّو، حين اعترف في رسالته التي ظهرت سنة 1750 م – 1164 هـ بالأصل الإلهي حيث يقول: لقد تكلم آدم وتكلم جيداً، والذي علمه الكلام هو الله نفسه. [بشر: قضايا لغوية، ص 116]
أمّا الفريق الآخر فقد زعم أن اللغة اخترعها الإنسان بوسائله الخاصة، ولم تبتكر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية. ومن القائلين بهذه النظرية العالم هيردر – تلميذ الفيلسوف الألماني كانت – الذي يستدل على بطلان نظرية الأصل الإلهي بما يوجد في اللغة الإنسانية من عيوب، وبعدم وصولها إلى حد الكمال. [بشر: قضايا لغوية، ص 116]
علماً أن لا علاقة بين عيوب اللغة وبين مصدرها الإلهي، فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ومع ذلك جعل فيه قابلية الخير والشر وذلك لحكمة أرادها رّب العالمين من وجود الإنسان في الحياة الدنيا. وقال تعالى في وصفه لطبيعة النفس الإنسانية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(
} [سورة الشمس: الآية 8]
أمّا نظرية الإصلاح والتواطؤ، أي أن اللغة والإنسانية الأولى ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق بين الناس، وأن المواضعة تمّت على أيدي جماعةٍ ممن يتمتعون بعقلية عاليةٍ، والتي قال بها كثيرون من القدامى والمحدثين، منهم أبو هاشم المعتزلي (عبد السلام الجبائي ت 321 هـ - 933 م) و من تابعه من المعتزلة، [قاسم : اتجاهات البحث اللغوي، ص 41] [Jesperson ( otto ) : ******** , its Nature Development , and Origin - London , 1864 PP . 26 – 27] فلا تصمد أمام البحث العقلي، لأنه لكي يتواضع الناس و يتفقوا، لابد لهم من وسيلة راقية يتفاهمون بها في موضوع جلل كهذا ، إذ كيف يتواضع الناس و يصطلحون على وضع لغةٍ بغير ما لغة ؟ !
فالأمر الحق في هذا هو كما قال المقدسي: و ليس في وسع الناس استخراج لغة ووضع لفظ يتفقون عليه إلا بكلام سابق به يتداعون ويتواضعون ما يريدون، وليس في المعقول معرفة ذلك، ولابد من معلّم. [المقدسي : البدء و التاريخ، 1 / 122]
هذا فيما يتعلق بلغة الإنسان الأول ، أمّا عملية رصد اللغة و ضبطها و تطويرها فهذا شأن آخر.
وكذلك اختلف في أمر لغة العرب، إلهامٌ هي أم تواضعٌ و اصطلاح ؟ وبخاصةً أن التاريخ لم يسجل طفولة هذه اللغة، فقال ابن فارس: إنها توقيف، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة: الآية 31]
وينقل عن ابن عباس: أن الله علّم آدم هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابةٍ وأرضٍ وسهلٍ و جبل وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم يزيد موضحاً: بأن اللغة التي دلّل على أنها توقيف لم تأت جملة واحدة وفي زمان واحد، بل إن الله عز وجل وقف آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم علم بعد آدم من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء الله أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. [ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة، ص 5 – 6]
ويقول ابن فارس أيضاً: إن الخط توقيفي، وذلك لقوله تعالى: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق : الآيات 1 - 5] وإذا كان الأمر كذلك ، فليس ببعيد أن يوقف آدم عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب. [ بن فارس: الصاحبي في فقه اللغة ، ص 6]
لم يكن ابن فارس هو الوحيد من أصحاب هذا الرأي، فقد سبقه إلى هذا أبو عثمان الجاحظ، حين يقول: واللغة عاريةٌ في أيدي العرب ممن خلقهم و مكّنهم و ألهمهم وعلّمهم. [الجاحظ: الحيوان، 1 / 349)
ويتحدث عن عربية إسماعيل عليه السلام فيقول: وقد جعل إسماعيل، وهو ابن أعجميين عربياً، لأن الله سبحانه وتعالى فتق لسانه بالعربية المبينة على التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء والتمرين. [الجاحظ : ثلاث رسائل: باعتناء فان فلوتن (ليدن 1902)]
وذكر ابن النديم أنه يقال: إن الله سبحانه وتعالى أنطق إسماعيل بالعربية. ويضيف: وقال محمد ابن إسحاق: فأما الذي يقارب الحق وتكاد تقبله النفس أن إسماعيل تعلم العربية من العرب العاربة من آل جرهم ... ولم يزل وُلد إسماعيل على مر الزمان يشتقون الكلام بعضه من بعض، ويضعون للأشياء أسماء كثيرة بحسب حدوث الموجودات وظهورها. فلما اتسع الكلام ظهر الشعر الجيد الفصيح في العدنانية، وإنّ الزيادة في اللغة امتنع العرب منها بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القرآن. [ابن النديم: الفهرست، ص 7] أي أن نظام اللغة العربية الصـوتي والصرفي والنحوي قد تأطر بلغة القرآن الكريم.
إن ما قاله ابن النديم يمكن أن يرد إلى حديث نبوي شريف، فقد نقل ابن كثير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "فألفى ذلك أم إسماعيل و هي تحب الأُنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، [ابن كثير: مختصر التفسير، 1 / 124] وبذلك فإن تاريخ اللغة العربية قديم، فقد عاش أبو العرب –إبراهيم عليه السلام– قبل المسيح بألفي عام.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس: أنّ آدم عليه السلام كانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية، فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية.
إلا أن عبد الملك بن حبيب يقول: كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربياً إلى أن بعد العهد و طال، حُرف وصار سريانياً. [السيوطي: المزهر، 1 / 3]
غير أنت العالم اللغوي ابن جنّي يرى أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي ولا توقيف. ويرد على ابن فارس في احتجاجه بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة: الآية 31]
فيذكر أنه قد يجوز أن يكون تأويله، أي أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه وتعالى لا محالة، فإذا كان ذلك محتملاً فهو غير مستنكر. [ابن جنّي: خصائص، ص 39]
ولكنه يعود ليتردد في آخر هذا الباب، وذلك حين يقول: واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التفكير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغّول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة و الدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام غلوة السحر... في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه و تعالى وأنها وحي. [ابن جنّي: خصائص، 1 / 41]
إن الناظر بعمق إلى آراء ابن جنّي يجد أنه في حيرة من أمره، فحين قال بالاصطلاح والتواضع اصطدم بالحقيقة القرآنية التي تقول: إن مصدر العلم الأول للإنسان الأول - آدم عليه السلام – جاءت من عند الله سبحانه وتعالى، فلجأ إلى التأويل. ومن جهة أخرى هو مأخوذ بروعة اللغة العربية وجمالها و كمالها، بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثلها.
مصدر كلمة العرب
أمّا مصدر كلمة "العرب" الذين نسبت إليهم اللغة العربية فقد ذكر ابن النديم:
أن إبراهيم عليه السلام نظر إلى ولد إسماعيل مع أخوالهم من جرهم، فقال له: يا إسماعيل، ما هؤلاء ؟ فقال: بنيّ وأخوالهم جرهم. فقال له إبراهيم باللسان الذي كان يتكلم به وهو السريانية القديمة: أعرب له، يقول: أخلق به، والله أعلم. [ابن النديم: الفهرست، ص 8] [جرهم: قبيلة عربية كانت تقيم في مكة المكرمة]
وحاول بعض المحدثين دراسة نشأة اللغة على أساس أنها شيء مصنوع، وبالرغم من المعرفة المتزايدة التي حصل عليها العلماء لتاريخ الإنسان قبل التاريخ المدوّن، فإن أصل الإنسان ونشأته ثم انتقاله من حيوان أبكم إلى حيوان ناطق، ومن حيوان لا يعقل إلى حيوان عاقل، لا يزال مكتنفاً بحجب الأسرار أمامهم و إن أقصى ما استطاعوا الوصول إليه هو أن اللغة ظاهرة إنسانية بسيكولوجية مكتسبة ملازمة للفرد، وقد نشأت بنشوئه، ونمت بنموه الحضاري، وبهذه الظاهرة أصبح الإنسان إنساناً. [مجلة الأبحاث: عدد آذار 1955 م (مقال الدكتور أنيس فريحة)]
كما وجد علماء الألسنية أن نطق كلمة مهما صغرت، ينطوي على حركات عضلية لا حد لها، ويصعب كثيراً معرفتها ورسمها. [مجلة الفكر العربي: عدد (8 – 9) مقال ف . دوسوسير: شغلت قضية نشأة اللغة بال اللغويين والمفكرين طويلاً، وطال الجدل حولها بينهم وكثرت النظريات، حتى أن الجمعية اللغوية الفرنسية قضت بقرار اتخذته الجمعية ألا يبحث الموضوع إطلاقاً في قاعات الجمعية لعدم جدوى البحث ولعقم النظريات، إذ أنها تدور في حلقة مفرغة، ولا تفسر لنا هذه الظاهرة العجيبة (فريحة : A/A/ 1 ، 1972). لمزيد من الفائدة حول هذه النظريات وتعددها انظر كتاب الدكتور رياض قاسم: اتجاهات البحث اللغوي الحديث ، ص 41 و ما بعدها]
مما زاد الأمر تعقيداً وأثار الجدل عند الباحثين علاقة اللغة بالفكر. فيذهب بعض علماء النفس إلى أن التفكير قد يحدث – أحياناً – من غير لغة، وأنه إذا استطعنا أن نحل محل اللغة رموزاً أخرى نستطيع التفكير بدون لغة، ولكن كلما ازداد التفكير عمقاً واتجه النشاط العقلي إلى المقارنمة والاستنباط كلما زادت حاجة العقل إلى استخدام اللغة. [عبد المجيد: اللغة العربية، ص 43 – 44]
وهناك علماء وباحثون آخرون رأوا أن الفصل بين اللغة والفكر أمرٌ غير ممكن، فقد رأى العالم اللغوي ابن هشام، أن اللغة هي ما في النفس وما تحصل به الفائدة سواء أكان لفظاً أم خطاً، أي إن المعاني تقوم في النفس قبل أن ينطق بها اللسان أو يخطها القلم. فالكلام اللغوي يكون في داخل الإنسان، ثم يجيء دور اللسان فيحوله إلى كلام لفطي. [ابن هشام: شذور الذهب، ص 28 – 29]
وبعبارة أخرى لم يكن ابن هشام يتصور إمكان انفصال الشكل عن المضمون في أية حال من الأحوال، لأن التحامهما معاً هو كارتباط الروح بالجسد، فإذا ما فارقت الروح وعاءها أصبح الجسد شيئاً مواتاً.
ثم جاء علماء فقه اللغة المحدثون فأيدوا هذا الرأي ، و ذلكم حينما قالوا: إن الإنسان لا يفكر، حتى فيما بينه وبين نفسه، إلا في أثواب من اللغة. [مجلة الأمة: عدد ربيع الآخر، 1402 هـ (مقال الدكتور عبد العظيم الديب)]
وهذا العلاّمة علاّل الفاسي يرى أن اللغة ليست إلا المظهر الخارجي للفكر. [مجلة البينة : عدد / 6 ، ص 35] فالكلام – حسب تعبير الأخطل – في الفؤاد، ولكن دليله اللسان.
يقول الأخطل: إنّ الكلام مِن الفؤادِ وإنّما جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَليلا [الوشاء : الموشّى ، ص 16]
ويذهب الدكتور كمال الحاج إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ لا يرى وجوداً للفكرة خارج الكلمة، لأن الفكرة والكلمة يكوّنان "أقنوماً" واحداًَ ... [الحاج : دفاعاً عن العربية ، ص 150]
ولعلّ الصواب هو إلى جانب الفريق الذي يؤكّد الصلة الحتمية بين الفكر واللغة. وإذا صحّ ذلك فإن الفكر الأول واللغة الأولى جاءا للإنسان الأول متلازمين، في ثوبٍ واحدٍ، وفي زمنٍ واحدٍ، أمّا مصدرهما: فإما أن يكون من الإنسان نفسه وإما من خارج الإنسان. فالذين قالوا إنهما من خارج الإنسان فقد أخذوا بالجانب التوفيقي للغة الإنسانية الأولى، واستندوا في ذلك إلى خبر السماء في الكتب السماوية، وعلى هذا الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين، [السيوطي: المزهر، 1 / 27] والذين زعموا أنها من صنع الإنسان واختراعه، فينقصهم الدليل لتوثيق زعمهم.
فقد ثبت أن عزل الطفل منذ اليوم الأول لولادته عن البيئة الإنسانية يحرمه حرماناً تاماً من اللغة الإنسانية، أي يحرمه من الفكر الإنساني. وما ينطبق على طفلٍ واحدٍ ينطبق على مجموعة الأطفال، كثرت أم قلت. وهذا لا ينفي تكوّن عددٍ من الأصوات والإشارات المعبّرة عند هؤلاء الأطفال عبر نموهم ونشأتهم، لكنها لا تتجاوز ما يصدر عن الحيوان.
وإذا ما التبس علينا الأمر فيما نجده عند الحيوان من أصواتٍ هادفةٍ، فإن اللبس يزول حينما ندرك أنها لا تعدو أن تكون طلباً لإشباع حاجةٍ عضويةٍ أو استجابةً لغريزةٍ حيوانيةٍ.
وإذا كان بعضهم يرى أن المسافة قصيرةٌ بين الحيوان والإنسان، وأنه لا ينقص الحيوان سوى الكلام، وأن اللغة هي الشرط الضروري والكافي للدخول إلى الوطن الإنساني، فإننا نرى أن هذه المسافة – على قصرها الحسي – هي الحدّ الفاصل بينهما، وأنه عاجزٌ عن تجاوزه.
فالأمر كما قال الجاحظ: و ليس عند البهائم والسباع إلا ما صُنعت له، ونُصبت عليه، وأُلهمت معرفته، كيفية تكلّف أسبابها، والتعلّم لها من تِلقاء أنفسها. [الجاحظ : كتاب الحيوان، 2 / 147] والبهيمة سميّت بهيمة لأنها أُبهمت عن العقل والتمييز. [ابن الأبناري: الأضداد، ص 7]
أمّا الإنسان فقد تميز عن الحيوان بكونه ناطقاً، أي مفكراً، وبالفكر شُرفَ وتفوق واستحق أن يكون خليفة الله على الأرض، ولا يخالج ابن خلدون أي شك في أن عالم الحيوان هو غير عالم الإنسان، وذلك حين يقول: إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكِنّ وغير ذلك، وإنما تميّز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المُهيء لذلك التعاون وقبول ما جاءت به الأنبياء من عند الله سبحانه وتعالى والعمل به واتبّاع صلاح أُخراه. [ابن خلدون: المقدمة، ص 429] [الكنّ: البيت، المسكن]
فاللغة ليست عمليةً نطقيةً – صوتيةً – فحسب، بل هي عمليةٌ عقليةٌ تأخذ بيده إلى التقدم والارتقاء. وإذا لم يكن ما يصدر عن الإنسان معبراً عن أفكارٍ ومفاهيم قابلة للإدراك العقلي، فإنها تكون أصواتاً عشوائية، ولا تندرج – حينذاك – في منطوق اللغة الإنسانية، وإن صدرت عن الإنسان نفسه.
وقد يكون تأكيد صلة الفكر باللغة مدخلاً لتأكيد الجانب التوفيقي للغة الإنسان الأول. فلو لم يُعطَ الإنسان الأول الفكر الأول لظل حيواناً غير ناطق (مفكر)، شأنه في ذلك شأن العجماوات كانت – ومازالت – وستبقى في نطاق عُجمتها الحيوانية التي فطرت عليها. وإذا كان الإنسان الأول قد أُعطي الفكر الأول، فقد أُعطي اللغة الإنسانية الأولى أيضاً. وهذا يؤكده قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة: الآية 31]
وهذا لا يكون إلا بلغة إنسانية، وذلك بعد أن خلقه بهذه الصفة البشرية. أمّا كيف أعطاه الله هذه اللغة ؟ هل علّمه إياها عن طريق الوحي أو أقدره على وضعها ، فأمر غيبي، ولا جدوى من بحثه، ولا أمل في الوصول إلى نتيجةٍ حاسمةٍ بشأنه، إلا إذا توافرت النصوص النقلية الأكيدة التي تتيح لنا ذلك.
ثم إن الدراسات العلمية الحديثة اكتشفت عناصر لغوية مشتركة بين لغات البشر في جميع أنحاء العالم، تؤكد وحدة الأصول اللغوية، فإذا صح ذلك، ودلّ على شيءٍ، فإنما يدلّ على وحدانية المصدر اللغوي الإنساني، ويعزّز القول بالتوقيف في أصل اللغة الواحدة.
أمّا كيف تكونت اللغات الأخرى فيما بعد، فأمر توقيفي، وهو ما تسرب إلى الشعوب المختلفة من الإنسان الأول وأحفاده، لدى تفرّق أبناء آدم عليه السلام في أصقاع المعمورة، وما أوحي به الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء والرسل من السماء. وفيه جانب مصنوع مكتسب، وهو ما فرضته حاجات الناس والمجتمعات البشرية عبر العصور المتعاقبة، استجابةً لحاجات الناس وتطور مجتمعاتهم في مجالات الحياة المختلفة.
هذا فيما يتعلق باللغات الإنسانية للشعوب والقبائل. أمّا لغة الإنسان الفرد بعد تكّون المجتمعات البشرية، فهي مكتسبة، إذ يتعلمها الطفل من أبويه وأسرته ومن المجتمع الذي ينشأ فيه، فاللغة – في المتعارف – هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة تعبير في اللسان، وهو في كل أمةٍ بحسب اصطلاحاتهم. [ابن خلدون : المقدمة ، ص 546] فإنك إذا وضعت طفلاً عربياً – و هو بعد في أيامه الأولى – في بيئة إنكليزية أو روسية لنشأ إنكليزي اللسان أو روسيّه.
أمّا ما يزعمه نفرٌ من الناس حول إنسان ما قبل التاريخ فزعمٌ لا يستحق البحث ، كما لا يستحق التفكير فيه، إذ هو هدرٌ للوقت والجهد والمال ليس غير. فالطريقة العقلية – ومنها العلمية – تقيس المجهول بالمعلوم، وليس العكس.
فالإحساس بالواقع وتراكم الإحساس فوق الإحساس عند جميع أجناس الحيوان التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ الإنساني لم يغير من حال هذا الحيوان شيئاً. ولقد صدق أحد العلماء حين قال: إن الحيوانات لا تتكلم، لا لأنها لا تستطيع الكلام، ولكن لأنه ليس لديها ما تتكلم عنه. [عبد المجيد: اللغة العربية، ص 39] أي لا تستطيع التفكير، لأن عنصر الربط بين المعلومات والخبرات السابقة والواقع غير موجود في دماغ الحيوان.
وإن ما نلحظه من تعلمٍ مكتسبٍ عند بعض أنواع الحيوان، ما هو إلا تقليد لما يقدمه له الإنسان ، بينما عالم الحيوان عالم مغلق تسيّره الحاجات العضوية والغرائز التي فُطر عليها. وإنّ ما يصدر عنه من أصوات وإشارات وسلوك لا تعدو أن تكون وظائف بيولوجية وفسيولوجية لمخلوقٍ مميز بخصائص أودعها الله سبحانه وتعالى فيه، وذلك حين يطلب إشباعاً عضوياً أو غريزياً. ومن هنا – وفي غياب الفكر – ظلّ الحيوان في نطاق عُجمته الحيوانية، في الوقت الذي نشاهد الإنسان يرتقي سلّم المعارف والعلوم الإنسانية والحيوانية والكونية الأخرى، ويبني بمعارفه وعلومه صنوف الحضارة والمدنية.
أمّا ما زعمه بعض علماء النفس من أننا نستطيع أن نفكر في أشياء لا نعرف لها أسماء، ولم نتعلم أسماءها، وأننا نستطيع أن تكون لدينا صور ذهنية بصرية، وغير بصرية، عن هذه الأشياء، فالرد على هؤلاء الباحثين ينبغي أن يكون في ضرورة التمييز الحاسم بين الإحساس بالشيء وبين التفكير في هذا الشيء، أي إصدار حكمٍ (فكرٍ) بشأنه. فالإنسان يحس بوجود أشياء كثيرة في واقعه الحياتي دون أن يعلم عنها شيئاً، ولكي يقول فيها أمراً مفهوماً لابدّ له من الاعتماد على المعلومات السابقة لكي تساعده في تفسير هذا الواقع الجديد، والتي إن لم تكن موجودة لديه أو لم تقدم إليه من الآخرين فسيبقى في نطاق الإحساس ولن يتجاوزه قيد أُنملة.
فإذا ما أصدر حكماً (فكراً) حول أي من هذه الأشياء الجديدة عليه ، فقد استعان بتلك المعلومات التي لابد أن تكون قد وصلت إليه مباشرة أو غير مباشرة عن طريق اللغة الإنسانية. ثم لكي يقول هذا الإنسان أنه قد تكونت لديه هذه الصور الذهنية أو غير البصرية فهو بحاجةٍ للتعبير عن طريق اللغة – أيضاً – نطقاً أو رسماً.
وهكذا، فإن الزعم أننا نستطيع أن نفكر من غاية حاجةٍ إلى الاستعانة باللغة أمر ينقصه الدليل الحسي العقلي.
بقي أن نقول شيئاً للباحثين الذين أُخذوا بالطريقة العلمية في التفكير لما حققته من إنجازاتٍ مذهلةٍ رائعةٍ، وهم يعملون على دراسة اللغات دراسةً علميةً بالطريقة ذاتها ، ثم يخرجون بآراءٍ واجتهاداتٍ و نظرياتٍ لا يمكن الركون إليها، لا بل قد يكون مجال الخطأ فيها أكثر من الصواب.
ولعل اختلاف النتائج التي توصلوا إليها يؤكد صحّة ما ذهبنا إليه. فاللغة ليست (شيئاً) مادياً لكي تدرس بالطريقة العلمية، إذ من المُسلم به أن التجربة العلمية هي أهم عناصر هذه الطريقة وخطواتها، وإذا سقط هذا العنصر الأساسي لا يبقى للبحث أية قيمةٍ علميةٍ. وهذه التجربة - كما هو متعارف عليه – هي إخضاع المادة لظروفٍ وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية وملاحظة أثر هذا الإخضاع، وصولاً إلى استنتاجٍ معينٍ، في حين ليست اللغة (شيئاً) مادياً يمكن أن يوضع في المختبر، ثم تُجري عليه مثل هذه التجارب، فاللغة هي الإنسان حين أدائها، وما تسرّب إلينا من تراثه اللغوي لا يتسنى لنا –بحال من الأحوال – أن نضعه في زجاجات المختبر، لأن هذا الإنسان – صوتاً وفكراً وسياقاً وبيئةً لغويةً وإنسانيةً – لم يعد قائماً.
وبذلك لم يعد أمامنا إلا أن ندرس العلوم اللغوية – على اختلافها – بالطريقة العقلية، التي تتلاءم مع طبيعتها و واقعها. وهذه الطريقة هي التي تنسب إلى العقل مباشرة، أي إلى الكيفية التي يتّم فيها التفكير عند الإنسان، وذلك من خلال الإحساس السليم الكامل بواقع موضوع البحث، ثم استدعاء الخبرات والمعلومات السابقة للاستعانة بها في فهم الواقع الجديد، ثم إصدار الحكم عليه. على أن تُرصد الطريقة العلمية التجريبية، التي بدورها تقدّم لنا الوسائل والأدوات التي نستخدمها في شتى حقول المعرفة التي يطمح الإنسان في الوصول إليها.
ولا يختلطن الأمر على أحد في ضرورة التفريق التام بين (التجربة العلمية) التي أشرت إليها سابقاً، وبين (التجريب) بمعنى الملاحظة الآنية، أو المستمرة، لواقع ما (إنسان، حيوان، شيء) في مواقف متلاحقة وفي أوضاع وأحوال متنوعة – أفقياً وعمودياً – فالتجريب بهذا المعنى هو من الوسائل والأساليب التي يُلجأ إليها في أي حقلًٍ من حقول المعارف الإنسانية.
أمّا لجهة الوطن الجغرافي الأول للغة العربية، فلا خلاف عند الباحثين في أن شبه الجزيرة العربية هي المهد الأول لهذه اللغة الكريمة. فوق واحاتها وُلدت، وبين أرجائها درجت، وفي قراها ومدنها نمت وترعرعت، إلى أن بلغت أوج ازدهارها وشبابها حين أخذت آيات الكتاب الكريم تتنزل على صدر رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاكتملت باكتمال نزول كتاب الله العزيز، واستحكمت أوصالها، وتأطرت قواعدها بهذه الآيات المُحكمات، وبما رفدها رسول الله صلى الله عليه و سلم من عبارات وأقوال لا تعرف اللحن، تحقيقاً لقوله تعالى: {إنّا أنزَلناهُ قُرآناً عَرَبيّاً لَعَلَكُم تَعقِلونَ} [سورة يوسف : الآية 2]