قررت ذات يوم بلغ مني الحنين ذروته التنقيب في حياة الآباء و الأجداد عن طريق *مطالعة الصور الفوتوغرافية القديمة التي التقطت قبل عقود فارطة من الزمن ، و التي تفضل ملاك و إداريوا المواقع و المنتديات في جنوبنا الغالي بنشرها في شكل البومات ، قد يخصصون لها مسميات مثل البومات الصور بالأبيض و الأسود ، و التي تحظي بنسبة زوار مرتفعة إذا ما قارنها بموضوعات المنتديات الأخرى.
و قد تأملت محتويات الصور القديمة ، و التي هي عبارة عن شخوص في معترك الحياة سواء كانت تمارس مهنة الرعي في السهول و الجبال أو الزراعة في الحقول أو في التسوق أو المشاركة في الأحتفالات ...الخ
، وهي ترتدي تقاليد الماضي و تقليعاته من ناحية اللباس و استعمال الأدوات كما في حالة الحرب و السلم و الرقصات الشعبية.*
و الذي لفت انتباهي حرص إنسان الماضي على اعتمار الظلة ( الشمسية) بالنسبة للرجال و هي في الغالب سوداء اللون أو بيضاء تحمل عالياً باليد ؛ لتقيهم من لفحات الحر ، و شدة القيظ في فصل الصيف ، أو قد يكون استخدامها للتوقي من زخات الأمطار في فصل الشتاء أو الأربعات كما يعبر عن مواسم الأمطار باللهجة المحلية ، و لم يكن لديهم علم -رحم الله من مات منهم و بارك في الباقين- بالخاصية الفيزيائية لاستخدام اللونين للظلة ( الابيض في فصل الصيف و الأسود في فصل الشتاء) لانعكاس أو امتصاص أشعة الشمس ، و إنما شراء الظلة يعتمد على توفر أيٍ من اللونين على حسب الموجود. و ربما يشعر الرجل بشئٍ من نشوة الموضة إذا اجتمع بياض الغترة*و بياض الثوب مع بياض الظلة ، و يكسو ذلك الرونق جمال الجنبية و توسطها في محزمة *، و قد يمترح الرجل الجنوبي و هو *بكامل هيئته بالقرب من بائعات الرياحين و الشيح و الكادي و أصناف الورود ؛ ليشم رائحتها الزكية في باكر صباح السوق ، الذي ينتظره في كل أسبوع ؛ ليتبضع منه *حاجاته من السكر و الشاي و القهوة و سائر الحبوب و المواشي ، و كذلك يحصل على الأخبار المحلية و الإقليمة و المواعظ الدينية و الأوامر الرسمية .*
و فيما يخص المرأة في الماضي نجد أنها هي الأخرى *تلبس على الرأس المظلة أو الطفشة في بعض اللهجات الجنوبية ، و لنفس الغرض ؛ لتقي شدة الحر و غرقة المطر في المواسم ، و ربما تفنن صانعو الموضة في تطعيم خوص المظلة بألوان زاهية تناسب لون الملابس النسائية في ذلك الزمن .
و كم يزهو منظر المرأة الجنوبية و هي تتوشح مظلتها المائلة للون البني مع لبسها لقباها الذهبي ( و هو عبارة عن لباس مصنوع من الجلد المدبوغ يبتدئ من الكتفين و حتى القدمين ، و لا يغطي *إلا الظهر و ليس له أكمام و بداخله و بر ، و كأنه بديل للعباءة في زمننا، و لا تلبسه المرأة *سوى في المناسبات أو الزيارات ) و معها معلاقتها التي تحملها بيدها ، و بها المكحلة أو كحلة العين التي هي *أهم أدوات زينتها المعروفة و معها شئ من الحلي في شكل معانق ( عقد العنق) و مفارد ( حلي اليد) و بعض الحاجيات الخاصة ، و المعلاقة تقوم مقام الحقيبة *اليدوية التي تحملها المرأة العصرية. و يبلغ البهاء ذروته عندما تشاهد لابسات المظال ( جمع مظلة ) *المنثورات في الحقول في *موسم الحصاد وهن بين الزروع الخضر و الحشائش القرمزية و *الأعشاب الصفراء، و *التي تمتزج في صورة بديعة *مع أشعة الشمس الذهبية ؛ لتنثر رحيق الجمال على الخدود الوردية المفعمة بالنشاط و الحيوية في أوقات العصرية.
و اليوم أختفت الظلة و المظلة و معها ماتت مهن الزراعة و الرعي ، و سلمت جثامينها إلى العمالة الوافدة التي لا تتقن طرقها و فنونها ، و التي الحقت الضرر بمعالم البيئة الجنوبية ، و غيرت أساليبها المعهودة عند الآباء و الأجداد.
و لقد شاهدت بعض الغربيين في مدينة الرياض و على الشواطئ الشرقية و الغربية و الجنوبية وهم *يستخدمون الظلة في ذروة الحر ، كما شاهدت في بعض البلدان الأوربية حرصهم على استعمالها في أوقات الأمطار مع استخدامهم المعهود للقبعة في الغرب بشكل عام، و لم نعد نشاهد المظلة *إلا مع الحجاج بلونها الأبيض الناصع*في صعيد منى و عرفات.
و لم يعد لنا في القاموس التراثي الجنوبي إلا القول : الله يرحم زمان الظلة و المظلة .