تمثل ألاوهام المعرفية أمر يتعرض له جميع البشر بدرجات و أشكال مختلفة، في مستويات تتنوع بداية من الأوهام الحسية إلى الأوهام المنطقية، مثل تلك الأوهام تشل العقل لحظياً بأسلوب يجعله يتقبل الوهم المقدم له على أنه واقع، و ينتقل للتفكير في نتائجه بدلاً من التفكير في بنيته، و بالرغم من إختلاف تلك الأوهام في طرقها إلا أنها جميعاً تشترك بأمر واحد، أنها تغرز في عقلك خدعة بارعة في بساطتها بدون أن تدرك حدوث هذا حتى.
أحد الأمثلة الجلية لمثل تلك الأوهام هي أي سحر يقوم به أي ساحر، فباللحظات السابقة للقيام بالسحر يدفع الساحر مشاهديه لإفتراض عدم وجود العنصر الأساسي بخدعته، كباب خفي في الأرضية يهبط به الساحر، أو كطاولة سوداء ترفع مساعدته لتبدو كأنها تحلق بمنتصف الهواء، و يقوم بهذا عبر القيام بإختبارات غير حقيقية أمام المشاهدين كتمرير حلقة حول جسد مساعدته، فالحلقة بالحقيقة لا تمر بالكامل بل تظل في جانب للطاولة ثم يخرجها بخفة و ينقلها للجانب الآخر، و خلال هذا يكون قد قام بخداع المشاهدين فلم ينتبهوا أنه لم يمرر الحلقة كاملة و بقى جزء صغير في المنتصف لم يفحصه، و عدم الإنتباه هذا يأتي بسبب تحديقهم في الحلقة بشكل يقلل من إنتباههم لأي أدوات خفية موجودة بخارج تركيزهم البصري، فيندفعون لإفتراض ألا شيء يرفعها حقاً، و بتحقق هذا الإفتراض تكون إكتملت الخدعة، فالمشاهد يعامل هذا الإفتراض كأنه أمر مؤكد، و يتجه عقله للتفكير في تفسير لكيفية تحليق مساعدة الساحر بمنتصف الهواء، و هو تفسير بالتأكيد لن يعثر عليه أبداً لأنها لم تحلق بالهواء بالأساس.
مثل تلك الخدع العقلية تستخدم في مختلف المجالات المعرفية لا فقط بالسحر، فوهم الإرتباط مثلاً يكثر إستخدامه في الحديث المتشبه بالعلمية، أي الحديث الذي يدعي و يقنع من يقرأه أنه علمي، و يستخدم هذا الحديث وهم الإرتباط لدفع العقل لإفتراض وجود رابطة سببية منطقية بين حادثين لا علاقة بينهما، أيضاً يوجد وهم المنطق، و هو وهم يستخدم في ذات النوعية من الحديث أيضاً، و يعمل بطريقة تقديم قضية أولية و لتكن مثلاً أن العلم و الفلسفة لا يتفقان، ثم يتناول تلك القضية الأولية بالتفصيل المنطقي بذكر أن العلم قائم على تجارب يتلوها تفكير يسعى لتفسير التجارب، بينما الفلسفة تفكير خالص لا يستخدم تجارب فمن الطبيعي أن يخرجا بنتائج لا تتفق، لا هذا فقط بل و أن يكون جوهر كلاهما بالأساس لا يتفق، و يتوقف هنا بعدما أتم تحقيق الوهم عبر حرمان عقلك من القيام بدراسته المنطقية الخاصة، و تقديم منطق وهمي يحصر عقلك بإختيارات محدودة كلها تؤدي لنفس النتيجة التي يريد من عقلك الإيمان بها، بوهم المنطق هذا نجده يدفع العقل كأي وهم آخر لصنع إفتراضات و إعتبارها صحيحة و القفز من فوقها للوصول لنتائج خادعة، فبالمثال المستخدم هنا نجد أنه يدفع عقلك لإفتراض أن الفلسفة كتفكير غير متصلة بالعلم و لا تستخدمه كآداة تجريبية في تشكيل هذا التفكير.
مثل تلك الفرضيات المستترة حولنا سواء في علم مزيف أو كتاب دجل، بين كفي ساحر أو بين ثنايا سطور فكر خادع، نمر عليها بحواسنا و تنساب إلى المخ فيستقبلها كتحفيز حسي، و تأتي عبر الحواس المزيد من تلك المحفزات كسطر جديد في كتاب أو حركة جديدة يقوم بها الساحر بكفه، و تنساب تلك المحفزات أيضاً للمخ فيزيح المحفزات السابقة ليستقبل المزيد التالي لها، و تلك المحفزات التي تتم إزاحتها في المخ تزاح أيضاً عقلياً لتنتقل من قائمة ما يجب التحقق منه إلى قائمة ما تم التحقق منه، بدون أن يتم التحقق منها فعلاً، إن كان المثال السابق قد دفعك خلال قراءته للتصديق بمنطقية النتيجة التي يصل إليها بعدم توافق العلم و الفلسفة فقد قمت بخداع عقلك عبر إستخدام تلك الإزاحة للمحفزات، فرض بسيط خفي لا تراه العين و لا العقل عادة موضوع وسط جمل متسلسلة، حين تصل عينك لقراءة : بنتائج لا تتفق. في الفقرة السابقة تكون المحفظات المتعلقة بتلك القراءة قد أزاحت المحفزات المتعلقة بالجملة السابقة لها، و أزاحت معها الفرض الخفي إلى قائمة ما تم التحقق منه.
أعود مرة أخرى للسحر للتأكيد على أمر هام، فما سبق لا يعني أن كل السحرة بالحقيقة كاذبين مشعوذين، فهناك أساليب معينة يمكن تطويعها للقيام بسحر حقيقي منها ما يسمى إختصاراً بالـ ESP، أو الحدس الغير حسي، و هو كما تعرفه موسوعة ويكيبديا : إستقبال معلومات لم تجنى عبر الحواس الفيزيائية المعروفة، بل تم شعورها بالعقل، كالرؤية عن بعد أو قراءة الأفكار، و يشار له عادة بإسم الحاسة السادسة. فعبر إستخدام الـ ESP يمكن تحقيق سحر حقيقي قائم على إستخدام تلك الحاسة السادسة، توجد تجربة شهيرة تثبت هذا عبر نظام يعمل بالحدس الغير حسي، فبعد زيارة هذا الموقع الخاص بالتجربة يمكنك الضغط على أحد العيون الثلاثة لتنتقل للصفحة التالية، حيث ستجد ستة كروت فإختار إحداها، لكن لا تضغط عليه بل فقط أنطق أسمه و لونه بصوت واضح ثم أحتفظ به بذاكرتك، حدق بالكارت قليلاً ليستطيع النظام إلتقاط إشاراتك العقلية و قرائتها، ثم أضغط على أحد العيون بالأسفل، بالصفحة التالية ستجد أن النظام قد أدرك و أزال الكارت الذي قمت بإختياره فلن تجده بين الكروت الخمسة المتبقية، يمكنك الضغط على كلمة Explanations بأسفل الكروت لقراءة عشرات التفسيرات المختلفة التي قدمت لهذا السحر، كما يمكنك ضغط Try لإعادة إحداثه، فقط تذكر أنك تحتاج لقول أسم الكارت و التحديق به قليلاً كي تضمن نجاح حدوث السحر، قبلما تكمل قراءة للفقرة التالية قم بتلك التجربة لمرة واحدة على الأقل.
أثق أنه بالوصول لتلك الفقرة ستكون قد قمت بالتجربة، و إن كنت قد قرأت بعض التفسيرات كذلك فستجد أن جميع التفسيرات التي وضعها أشخاص آخرين قاموا بالتجربة لم يتم فيها التوصل لتفسير منطقي لا يشتمل على أمور خارقة للطبيعة كالحاسة السادسة، إن كنت مثلهم لم تصل لتفسير فقد خدعتك للمرة الثانية بهذا المقال -إن خُدعت بالمرة الأولى أيضاً- فالفقرة السابقة لا تحتوي أي كلام علمي، بل جميعها تمثل ما وصفته سابقاً بالحديث المتشبه بالعلمية، لأكن واضحاً، الفقرة السابقة خاطئة، لكن عبر إستخدام إقتباس ضئيل من موسوعة ويكيبديا أدفعك قليلاً للإيمان بالوثوق بالمصدر، و عبر الحديث عن الحدس غير الحسي بتلك الطريقة التي تبدو كأنها علمية أيضاً أوهمك أنه أمر واقعي حقيقي، و خلال إستكمالك قراءة الفقرة السابقة أستخدم أنا ذات الإزاحة الحسية لأنقل تلك الفرضيات الوهمية المقدمة ببدايتها بعيداً عن التفكير المنطقي لعقلك، هنا يتوقف دوري وتتناولك التجربة فتجري عليك وهم الإنتقاء، ففي حين تركز أنت على كارت معين و تتذكر لونه و شكله و تذهب للصفحة التالية، لا تلحظ أن جميع الكروت تم تغييرها بها، كمثال في حين أن الصفحة الأولى بها قلب أحمر مصاحب لورقة الشايب، لا يوجد هذا الكارت بالصفحة التالية، و كذلك بقية الكروت فلا يوجد أي كارت بالصفحة الأولى موجود بالصفحة الثانية، هنا أيضاً يتحقق خداعك عبر فرض خفي، فلم يقل أحد أن الكروت بالصفحتين متشابهين.
بالتأكيد لم تنطلي تلك الخدعة على الجميع، فكلما نمت القدرة التحليلية و التفكير المنطقي عند الشخص نمت قدرته على إكتشاف مثل تلك الفرضيات الخفية سواء كانت بسحر أو بمقال فكري، إلا أن رؤية صفحة تفسيرات التجربة السابقة و رؤية مدى إستماتة الكثير في العثور على تفسير منطقي في حين أن الخدعة واضحة وضوح الشمس أمامهم يدل على أن نسبة من يعجزون عن رؤية تلك الفروض الخفية ليست قليلة، و هذا ما يساعد على إنتشار اللاعلم في صورة العلم، و يساعد على إنتشار الخرافات في صورة اليقين، و من جانب الفكر يساعد الكثيرين على تضييق نطاق تفكيرك و دفعه للركن الذي يريدون، فيهزموه بفكر مزيف خادع، لتصبح أنت بدورك مقتنع به فقط لأنك لم تحلل، و سقطت في وهم بسيط جداً، إلا أنه يغير جذرياً من ناتج التفكير.