حوار الحضارات
تمهيد
اتخذ الحوار بين الحضارات أهميته – وهو تقليد قديم في أزمنة السلم والحرب – بعد الحرب العالمية الثانية ، تحت رعاية اليونسكو وبعض المنظمات الدولية والإقليمية. ولقد تأثر هذا الحوار في الفترة الممتدة بين عامي 1949 و1989 بالمناخ الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي؛ الذي كان سائداً في الخمسين عاماً الماضية ، وقد كان حواراً في نظام دولي ثنائي القطبية بكل ما يتضمنه ذلك من معان(2) ! أما بعد الأحداث الهائلة والتي تسارعت منذ عام 1989 وحتى ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة2001، فقد تغيرت ظروف الحوار بين الحضارات وتطبيقاته بصورة جذرية !
فقد "تموضعت العلاقات الدولية في حيز من النظام الدولي الجديد المتميز بأحادية قطبية تُهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية مقابل أحادية قطبية مهيمن عليها وممثلة بالعالم الإسلامي والعربي منه تحديدا "(3) ..
ونستنتج من ذلك وجود صراع حقيقي بين هذين القطبين وإن كان قائما فعلاً ، وهنا يأتي دور الفكر الحواري الحضاري لإنقاذ تلك الأزمة القائمة .
مفهوم حوار الحضارات :
يشير مصطلح الحوار إلى درجة من التفاعل والتثاقف والتعاطي الإيجابي بين الحضارات التي تعتني به، وهو فعل ثقافي رفيع يؤمن بالحق في الاختلاف إن لم يكن واجب الاختلاف، ويكرس التعددية، ويؤمن بالمساواة. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً. على أن الباحثين يربطون أحينا الحوار بالحضارات ويلحقونه حينا آخر بالثقافات أسوة بالتصنيف الكلاسيكي، الذي يجعل من الحضارة تجسيدا وبلورة للثقافة..فالثقافة عبارة عن: عادات وتقاليد ومعتقدات المجموعات البشرية التي تمتاز بسمات مستقرة، كما أنها بمعنى آخر مجموع الاستجابات والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب ضرورات وجوده الطبيعي بما تحمله من عادات ومعتقدات وآداب وأعياد(4).
أما الحضارة فكثيراً ما تعرف بكونها التجسيد العملي لتلك الاستجابات والمواقف وهي بالتالي تنزع إلى العمومية خلافا للثقافة التي تنزع إلى الخصوصية ، كما أننا نعني بها – أي الحضارة - " ذلك الطور الأرقى في سلم تقدم الإنسان"(5)..
وتعرّف أيضاً ـ أي الحضارة ـ بأنها مجموعة المفاهيم الموجودة عند مجموعة من البشر، وما ينبثق عن هذه المفاهيم من مُثل وتقاليد وأفكار، ونظم وقوانين ومؤسسات تعالج المشكلات المتعلقة بأفراد هذه المجموعة البشرية وما يتصل بهم من مصالح مشتركة ، أو بعبارة مختصرة " جميع مظاهرة النشاط البشري الصادر عن تدبير عقلي"(6).
بيد أن أشمل تعريفات الحضارة ذلك التعريف القائل :" أن الحضارة تعني الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة؛ فهي مجموع الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية"(7).. وهو تعريف يشير إلى جناحي الحضارة ، وهما : المادة والروح، حتى تلائم فطرة الإنسان، وتتجاوب مع مشاعره وعواطفه وحاجاته، كما أنه يشير أيضاً إلى عناصرها التي يمكن حصرها في(
:
1- تصور الحياة وغايتها .
2- المقومات الأساسية التي تقوم عليها .
3- المنهج الذي يستوعبها .
4- النظام الاجتماعي الخاص بها.
وبعد بيان معنى " الحوار " وتعريف مصطلح " الحضارة " فإن الباحث يرى أن " الحور بين الحضارات " يعني :
5- تلاقح الثقافات الإنسانية بين هذه الحضارات .
6- تفاعل سياسي متبادل بين هذه الحضارات .
7- امتزاج اجتماعي منضبط بين هذه الحضارات .
8- تبادل تقني وتكنولوجي بين هذه الحضارات.
الحضارات ـ صراع أم حوار
يحفل التاريخ البشري بالكثير من الشواهد الدالة على أن الصراع أحد سمات الاتصال البشري، كونه عاملاً مؤثراً في تكوين الحضارات وانتقالها، فبقدر ما كانت الحروب سبباً للدمار، فقد أدت إلى انتقال المعرفة وغيرها من مكونات الحضارة، وفي الوقت نفسه كان للعلاقات السليمة والحوار دور كبير في تحقيق التواصل الحضاري وبناء الثقافات..وإن الشواهد كثيرة على أن الجانب الأكبر من الإنجاز الحضاري لم يكن ليتم لولا الله ثم الحوار كمنهج حضاري للتفاهم والتعايش بين الحضارات؛ مع مراعاة خصوصية كل حضارة واحترامها لمبادئ وقيم الحضارات الأخرى(9).
فالأصل في علاقات الشعوب والأمم هو التعارف والتحاور كما قال الخالق سبحانه: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(10) .. ويستنتج الباحث من ذلك بطلان دعوى صامويل هانتنجتون – صاحب كتاب صدام الحضارات - إذ يرى أن التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات(11).. وهذا الزعم عار من الصحة ؛ إذ التفاعل بين الإسلام وأي حضارة أخرى – لاسيما الغرب- قائم على الأخوة الإنسانية والشراكة المعرفية والثقافية .
من الصدام إلى الحوار
" لقد كانت قيادة الدنيا ، في وقت ما ، شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان عربية، ثم نقلتها النبوات إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى، ونهض الغرب نهضته الحديثة .. فورث الغرب القيادة العالمية ، وها هو الغرب يظلم ويجور، ويطغى ويحار ويتخبط ، فلم تبق إلا أن تمتد يد شرقية قوية "(12)..
والحق أن تاريخ العلاقات بين الحضارتين الإسلامية والغربية عرفت فترات حوار وتفاعل ، وفترات صدام وتطاحن . والغزو الحديث للأمة الإسلامية جاء بالسيف والمحراث كما قال المرشال بيجو(13)، أو بعبارة أخرى جاء بالمدافع والنهب الاقتصادي، ثم تلاه غزو فكري ، ارتكز على الثالوث المشهور : الاستعمار والتنصير والاستشراق ، لأن غزو العقل يضمن له تأييد تبعيتنا له ، حتى بعد انتهاء الاحتلال العسكري ، وهكذا نصبح ونحن نتبنى النموذج الغربي ، ونتخلى عن المرجعية الإسلامية ، في مشروعنا النهضوي في الحكم والإدارة والتشريع .. وهكذا ينطلق العرب بمبادرة حوار الحضارات على غير أسس وعلى غير مرجعية؛ إذ كيف ينادون بحوار بين الحضارات وقد انسلوا من هويتهم الأصلية ومرجعيتهم الأولى .. !؟
على العموم في أي حال من الأحوال ينبغي أن يكون الحوار بين الحضارات – ولاسيما الحوار بين الحضارات القوية والضعيفة وإن شئت فقل الحوار بين المنتصر والمهزوم – ينبغي أن يحكم هذا الحوار شروط وضوابط ، تضمن حق الحفاظ على المرجعيات الثقافية والعقدية لكل طرف .. ومن ثم يأتي دور الحديث عن ثلاث مسائل مهمة :
المسألة الأولى : في ضوابط وأسس الحوار .
المسالة الثانية : في شروط المحاور الغربي .
المسألة الثالثة : في شروط المحاور المسلم .
هذه المسائل الثلاث المهمة تمثل الإطار الواقي للخصوصيات الثقافية والدينية ، قال الخالق تبارك وتعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(14).
المسألة الأولى : في ضوابط وأسس الحوار:
ويمكن أن يجمل الباحث هذه الضوابط وتلك الأسس على هذا النحو:
1- ينبغي أن يشمل الحوار كل مجالات وجوانب الحياة ؛ الفكرية والسياسية والاقتصادية والفنية والأدبية ...
2- ألا يقوم على الروح التنصيرية ، بل على المبدأ الذي قاله الخالق : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ )(15).
3- السعي نحو الحريات الديمقراطية في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية(16) .
4- تفعيل البيان العالمي لحقوق الإنسان ، وتعميمه ، لا تخصيصه..!
5- أن يحترم الحوار المرجعيات والخصوصيّات الثّقافيّة، والابتعاد عن التّسلّط وإلغاء الآخر(17) .
6- أن يتبنّى قاعدة ( المعرفة والتّعارف والاعتراف ) وينطلق منها في سبيل التّقارب و معرفة ما عند الآخر معرفة جيّدة ، والتّعارف الذي يزيل أسباب الخلافات، ويبعد مظاهر الصّراعات. والاعتراف الذي يثمّن ما عند الآخر ، ويقدّر ما يملكه . وهو ما يعين على التّقارب والتّعاون(18).
المسألة الثانية : في أهداف المشروع الحواري الحضاري:
وتتمثل في :
1- هدف فكري :
وهو تصحيح الصورة التي روجت عن الإسلام عقيدة وحضارة ونظاماً. ومقاومة القولبة الإعلامية الصهيونية منها وغير الصهيونية ، ضد الإسلام ، وشعائر الإسلام ، وأدبيات الإسلام .. إنهم ـ أي الصهاينة تجار الإعلام ـ نجحوا في قصر مفهوم الإرهاب على الإسلام ، وأصبح الإرهاب ما هو إلا نتاج الإسلام، والإسلام مصدر الإرهاب . فتصحيح صورة الإسلام وهو من واجبات الوقت !
2- هدف سياسي :
العمل.. والعمل .. والعمل على إشراك الحضارة الإسلامية في صنع القرار العالمي ، والكفاح من أجل الحصول على مقعد دائم للدول الإسلامية في مجلس الأمن ..
3- هدف اقتصادي:
وبما أن الشرط الأساسي للوصول إلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن هو أن نكون قوة اقتصادية عاتية ، فيجب علينا أن نبني ونصنع اقتصاداً قوياً حتى نشارك في صنع القرار الاقتصادي؛ لاسيما بالنسبة لأسعار المواد الأولية التي ننتجها، وأسعار العملات الإسلامية وقوتها ..
ويرى أحمد طالب الإبراهيمي أن تحقيق ذلك الهدف يتطلب(66) :
أ- الاكتفاء الذاتي بالنسبة للمواد الغذائية ، واستقلال الأمة الإسلامية الحقيقي يتم عندما نصل إلى إنتاج ما نستهلك.
ب ـ تحديد الأولويات في ميدان البحث العلمي(67). مثل الزراعة ..
بيد أن الباحث يرى أن الأولوية في البحث العلمي لا تعطى للجانب الزراعي بل في الجانب النووي السلمي\الدفاعي ، إذ هو الورقة الرابحة على جميع الموائد العالمية على الإطلاق ..
4- هدف أخلاقي :
يا قومنا .. إن إله الحضارة الغربية هو النماء المادي المطلق حتى على حساب القيم .. كل شيء مباح .. وأن العلم والتقنية غاية ، بينما نحن نعتبرهما وسيلة لتحقيق مبدأ الاستخلاف والإعمار في الأرض.
5- هدف أمني :
يتمثل في العمل والتعاون على إنشاء مجلس أمن إسلامي عربي يضم في عضويته كافة الدول الإسلامية والعربية ؛ لبناء وحماية الأمن القومي الإسلامي .. ورعاية الأقليات المسلمة وتحرير الأراضي المحتلة والمقدسات المسروقة ، والتحقيق في قضايا الأعراض المغتصبة ..
خـــاتــمة
إن مفهوم الحوار بين الحضارات مفهوم إسلامي بحت ، إذا ما جعل الخالق الشعوب والقبائل إلا للتعارف والتحاور والتفاعل ، وإن الأصل في الحضارات الحوار لا الصراع ، وأن على كل طرف أن يلتزم بآداب الحوار وشروطه وضوابطه ، ويحترم الطرف الآخر ، ويقدر مرجعيته وخصوصيته الثقافية ، والإسلام خير حضارة وضعت أسس حوار الحضارات وعززت هذا الحوار على مدار التاريخ الإنساني ، كما أن الإسلام يرفض المركزية الحضارية وإلغاء الحضارات الأخرى وإن كانت ضعيفة ، كما يرفض أيضاً تهميش الحضارات وسيطرة حضارة واحدة على العالم تعربد فيه ، ونقصد بذلك المثل الأخير حضارة الغرب ، وسلوكها في الواقع، في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية ..
وقد تبين بجلاء مدى الفجوة الهائلة بين الغرب والإسلام ، وسوء التفاهم بينهما إن صح التعبير ، بل هذه النزعة العدائية من جانب الغرب نحو الإسلام والمسلمين ، و العروبة والعرب .. ويؤكد الباحث أن هذا العداء من الغرب وذلك الحقد ناشئ بسبب جذور ممتدة في عمق التاريخ ،تشي بحقد دفين على عنصرين كبيرين : الدين والثروة . في ظلال الثأر التاريخي ..
ومن ثم يأتي الحديث عن مشروع حضاري ينقذ الموقف ويحوله من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات، والحديث عن هذا المشروع الحضاري يتطلب تحديد أهدافه وأولوياته وأفكاره الأساسية .. بحيث نخلص إلى مشروع متكامل شامل يحقق الحوار المنشود، وفي نفس الوقت أيضاً يحقق الحماية الكاملة للحضارة الإسلامية ومرجعيتها وهويتها وخصوصياتها..
إن هذا المشروع العربي الإسلامي الحضاري .. مشروع سامق رفيع ، يحتاج منا بذل الجهد والوقت .. بل يحتاج منا التضحيات .. إذ لا سبيل لبناء الحضارات أو مشاريعها .. إلا بالتضحيات ..
إن أشد ما يخشاه الباحث أن تصدق فينا مقولة القائد اليهودي " بن جوريون" حين قال :
" العرب بالطبيعة ، نَفَسُمُ قصير ! وهم يستطيعون تعبئة جهودهم لفترة زمنية محددة، لكنهم إذا طال الوقت تراخت تعبئتهم ، وضعفت حماستهم ، وأخذتهم شواغل أخرى غير تلك التي جمعت بينهم "(74) .