سقطت الدولة الأموية وانتقلت الخلافة إلى بني العباس إذ اتخذوا بغداد عاصمة لهم، فكانوا على غرار بني أمية قد انفتحوا على عدة حضارات منها فارس، الهند واليونان، أما الفرس فقد فتحت لهم الدولة أبوابها مرحبة بهم وبثقافتهم، علومهم وآدابهم ،وأصبح للفرس نفوذ في الحكم وسلطة ،وارتاد أبناؤهم درجة الولاة والوزراء ما سبب غضب العرب وسخطهم على الحكام.
ازدهرت الدولة العباسية وأنشأت القصور والمباني واهتمت بالعلوم والآداب، وتقدمت حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية وصار للعلماء مكانة خاصة في البلاط الملكي.
رغم كل هذه التطورات إلا أن الشعراء العرب كانوا لا يزالون على صلة بالقصيدة العربية العتيقة والمقدمة الطللية، حيث البكاء على الأطلال والتغزل بالأحبة، إلا أن طائفة من المولدين المشهورين بشعوبيتهم وانحيازهم للفرس (أبو نواس من أصل أب عربي وأم فارسية) رفضت هذه المقدمة وعزفت عن وصف الخيام والصحاري إذ أنى لرائي بغداد في مجدها وحضارتها أن يبقى شعراؤها على وصف الإبل والتحسر على الماضي، أما آن للشاعر أن يصدق نفسه وتعكس قصائده مرآة عصره بأشعة شعره؟؟؟ !!!! وأجمل بهذا العصر !
كان أبو نواس رائد حركة اللهو والمجون، وزعيم الخمرة والنبيذ، كان مهووسا بشرب الخمر ووصفه ، ألم يكن أول من أشاد بالمقدمة الخمرية وحث عليها؟ إذ دعيت دواوينه بالخمريات.
لم يكن أبو نواس ذاك الشاعر القديم الروتيني، بل كان داعيا إلى مذهب قوامه الدعوة الجديد وهجر القديم، كما كان متأثرا بالحضارة الهندية في قوله :
قـــل لزهـــــير إذا حدا وشــدا أقلــــل أو أكثر فـأنت مهذار
سخـــنت مـن شــــدة البــرودة حتى صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي كــــذلك الثلـــــج بـارد حـــار
فهذه الأبيات تدل على نظرة أبي نواس في علم الطبائع إذ أن الهند تزعم أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارا.
رغم عبث أبي نواس، هو وأمثاله من الشعراء والأدباء بقيم المجتمع وآدابه، أخلاقه وثقافته، إلا أن التراث الإسلامي ، القرآن والسنة ، أعاد بعضهم إلى جادة الصواب، فتفطنوا لأخطائهم وحاولوا تدارك ما أفسدوا فكان الزهد والتصوف أمثال :مالك بن دينار، واصل بن عطاء وأبي العتاهية، فما أعجب أمر من يفسد القيم ثم يعود ليصلحها !!
لم يكن الوعظ مقتصرا على عامة الناس، بل تعداه إلى الملوك والخلفاء، فقد كان لكل خليفة واعظه، يقتحم القصر دون إذن أمثال: عمرو بن عبيد في وعظه للمنصور، صالح بن عبد الجليل في وعظه للمهدي وأبي السماك في وعظه لهارون الرشيد.
وإلى جانب هؤلاء كان الزهاد والمتصوفون يسعون بعزوفهم عن الملذات وإقبالهم على العبادة إلى توعية الناس بحتمية الموت والعمل لأجل الآخرة .
هذا ما حدث في العهد العباسي من نزعة عقلية زحفت على المجتمع وأثرت فيه أيما تأثير.