مالك بن نبـي الجزائري.. ابن خلدون العصر الحديث
يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.
"وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.
ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها.
§ ابن خلدون العصر
§ مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
§ الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
§ الحضارة هي التي تلد منتجاتها
§ القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
§ ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
§ الدورة الحضارية عند ابن نبي
ابن خلدون العصر
لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر.
ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن" 4 .
وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري"..
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.5
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". 6
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. 7
ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شــديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس"
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت.8
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار"
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم" 9.
. ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار 10. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها"
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" 11.
وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث" 12
. وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي"13
القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى ابن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية14.
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته
منقول من احدى المنتديات