السادة الفضلاء القراء الكرام.... السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..
في سنة 1969 كنت بدار المعلمين بالأغواط دارسا لأتخرج في النهاية معلما متربصا وكان معي طلاب من مختتلف المدن والقرى والمداشر من الأغواط وقصر الحيران وآفلو والعالية والحجيرة ووادي سوف وعين صالح وبالريان والقرارة وغرداية... وكنا نعيش مع بعضنا البعض في مؤسسة أصلها عسكرية في نظام داخلي جد صارم وكان مديرها من غرداية السيد بابانو.... رحمه الله وجل الأساتذة مصريون وسوريون وعراقيون ما عدى جزائري واحد فقط أستاذ اللغة الفرنسية وكان من بين مراقبي الداخلية والخارجية الإخوة صن قدور...بالحوت ...نعيجات السعيد...وكانت العطلة الأسبوعية يوم الأحد وكنا نخرج من الصباح ولا نعود إلا في المساء حيث نأخذ معنا الكرة وبعض الأكل ونقضي يومنا في وادي مزي نتمتع بمناظره الطبيعية الجميلة ونلعب بالكرة....
وكانت السينما الملاذ الوحيد لنا كشباب ولسوء الحظ انها لا تكون إلا في الليل ، والليل بالنسبة لنا في النظام الداخلي ممنوع فيه الخروج...الأمر الذي جعل بعض الطلاب يفرون بالقفز على الجدارويذهبون الى السينما ثم يعودون ويصعدون بالإستعانة بالحبال وكانوا يضعون مجوعة كراطن في أسرتهم ويغطونها ليوهموا الحارس وقد أفلحوا مدة من الزمن...فقلت في نفسي لماذا لا أكون أنا كذلك من بين الذين يذهبون الى السينما ؟ وفي إحدى الليالي قلت لزملائي سأذهب معكم الى السينما فقالوا لي أنت جسمك ضعيف ويمكن أن تتعرض لكسور في عظامك أثناء تجاوزك الجدار الذي إرتفاعه يفوق الأربعة أمتار، فقلت أنا مثلكم سأصبر وساعدونني لأصل الى المستشفى وأوهموا حارس الباب بأني تعرضت للكسور داخال المؤسسة...وأحجموا أنتم عن الذهاب الى السينما في هذه الليلة المنحوسة....وبعد أن حشونا أسرتنا بالكرطون وغطيناها تسللنا لواذا عبر الجدار الخلفي مستعينين بالحبال وقد أفلحنا وتمتعنا بفلم هندي جميل....وبعد ان غادرنا مبنى السينما عدنا وتسللنا عبر الجدار الخلفي وقد افلحنا في الدخول دونما أية إصابة والحمد لله رب العالمين وتسللنا الى المراقد تحت جنح الظلام كل منا يتلمس سريره لينزع منه الكرطون لينام....كلهم أفلحوا إلا أنا ولسوء حظي وجدت مراقب الداخلية ينام في سريري وكانت هي الحجة البالغة على جرمي وجرم زملائ وكان حظنا سيء للغاية وفي الغد تم تقديم قائمتنا الى الإدارة والتي بدورها أحالتنا جميعا على المجلس التاديبي وكان نصيبنا توبيخات كتابية توضع بملفاتنا وحرماننا من التمتع بعطلة الراحة الأسبوعية لمدة شهر كامل مع إعلام أوليائنا بذلك كتابيا بواسطة رسالة مضمونة على البريد السريع وفعلا كان ذلك من الإدارة وعلى جناح السرعة ’ وبعد حوالي أسبوعين وبينما كنا في المطعم نتناول غداءنا حتى دخل المراقب الداخلي وبيده حزمة من الرسائل وكان أول نداء ولسوء حظي هو أنا وقد إستلمت الرسالة والتي كانت من عند ولي أمري خالي الشيخ أحمد مشري غزال رحمه الله وسرعان ما تبادر الى ذهني بأنها تحمل أخبارا غير سارة بالنسبة لي وإن أنا فتحتها فسوف تنسد شهيتي ، وبعد مغادرتنا مطعم المؤسسة إنزويت الى ركن شديد تحت شجرة الخروب وسميت الله وفتحت الرسالة وقلت إن شاء الله تكون عباراتعا بردا وسلاما علي....لكن بطبعي ومزاجي الحاد المتقلب لم تكن كذلك ولم تكن كما توقعت بل كانت حطبا وفحما حجريا وكيروزينا ومواد ملتهبة أظيفت الى أتون من الجمر فازداد إنصهارا واشتعالا الى أن بلغت السنة اللهب عنان السماء يراها كافة سكان الكرة الأرضية وبعض أهالي الكواكب المجاورة وأحسست أن الدم يجري في عروقي مجرى الشيطان من جسم الإنسان وكاد دماغي ينفجر...فرحت مباشرة الى محفظتي وأخذت قلما وأوراقا وفتحت علبة سجائر من نوع - أفراز2 - واقتتحت رسالتي الى خالي بلا حمدلة وبلا بسلمة وبلا تاريخ ووصلت إلي عبارات جاءت من رأسي وهبطت الى كرشي حبالا حبالا ففتحت كنانتي وأخرجت سهامي وجهزت قوسي وشرعت في إطلاق السهام واطلقت العنان لفرسي التي يتطاير الغبار من حوافرها وأخذت أصول وأجول في سماء اللغة العربية من خلال الكتب التي كنت اطالعها من جرجي زيدان والمنفولطي العبرات والنظرات وعباس محمود العقاد وكليلة ودمنة والبؤساء لفكتور إيجو....وآخر عبارة اذكرها يا خالي العزيز يجب ألا نكون كالإسفنجة نمتص الماء ونرجه ماء بل نحلله الى عناصره الأولية فكانت هذه الكتابة بالنسبة لي عملية فرمطة حيث تنفست الصعداء وفي المساء ختمت الرسالة في مظروف وأرسلتها الى خالي أحمد رحمه الله عبر البريد بمدينة تقرت...لكن بعد أيام قلائل ندمت على كتابة الرسالة والتي كانت تحمل عبارات نارية في شكل هجوم صحفي منمقطع النظير وتمنيت أني لو كان بمقدوري سحب الرسالة ولكن دون جدوى ، ومن سوء حظي أيضا أخذنا العطلة الربيعية وسافرت الى مدينة تقرت ودخلت دار خالي أحمد بعد الظهيرة فسلمت على زوجة خالي رحمها الله وأولادها الصغار ووالدتي وإخوتي وجدتي رحمها الله ، سألت عن أحوال خالي فقيل لي هو بخير ولا زال في العمل ولم يلحق بعد فأخذت أتشمم ولم اتوصل الى أية رائحة شواط فقلت في نفسي إما أن الرسالة لم تصل بعد أو أنها ضاعت والحمد لله وكفى الله المومنين شر القتال وما هي إلا سويعة حتى لحق خالي أحمد بالمنزل وبيده حزمة من الرسائل ومجموعة من الجريدة الرسمية وبيده الأخرى مفاتيح السيارة وما أن رأئيته حتى قمت واقفا لأسلم عليه وكان رحمه الله صاحب الوجه الضكوك المشرق والعطوف والحنون فقلت في نفسي الحمد لله هذه بادرة خير ، أزمة وعدت....لكن قلت لعله الهدوء الذي يسبق العاصفة ، ثم قلت في نفسي الله يستر من تلك مجموعة الرسائل...وتركت خالي ليغير ملابسه على أن أشرب معه الشاي ، لقد فر شت له زوجته رحمها الله زربية صوفية كالعادة ومعها وسادة أو إثنتين في الحوش وحضرت صينية الشاي والكاكاو فناداني خالي وسألني عن سير الدروس بالمعهد وقدرة إستعاب الدروس وهو يفتح الرسائل الواحدة تلو الأخرى ولمحت عيني رسالتي المرسلة إليه من مدينة الأغواط فتبادر الى ذهني حيلة فقلت لخالي الباب يطرق فقال لي إذب لترى من الطارق ؟ رجعت وقلت له شخص يريدك فقال لي قل له يرجع بعد صلاة المغرب وكنت أنا أريد من خالي أن يذهب للطارق وأتمكن من سحب الرسالة لكن العملية لم تفلح واستسلمت أنا للأمر الواقع وكان خالي يفتح الرسائل ويقرؤها وهو يتحدث معي حديثا عاديا....والآن جاء دور رسالتي ولما فتحها خالي أخذ ينظر إليها وينظر الي تارة اخرى وكرر ذلك مرارا وكانت ملاح وجهه تتغير فعلمت ان خطبا ما سيحل قريبا بجسمي النحيل والمنهك ، وضع الرسالة وامرني بان انتظره في إحدى الغرف....وما هي إلا دقائق حتى جاء واغلق الباب بإحكام واشعل ضوء الغرفة فقلت له مازحا هل يلزم فدي وإلا هدي ؟ فقال : لا هدي ولا فدي بل يجب ان تصفع على وجهك وشرع في عملية التاديب التي فاقت الحدود وفاقت كل التصورات واختلطت الدموع بالعرق وبالقليل من الدم فشكلت على جسدي قوس قزح كإعلان بقرب نهاية عملية التأديب التي دامت حوالي أربعين دقيقة ولما فتح الباب وخرجت الى الحوش وتكأكأ من حولي والدتي وجدتي وإخوتي وزوجة خالي للتعرف على الخبر فاعلمتهم فرثوا لحالي ، وكان هذا نصيبي وحظي من عملية الرواح الى السينما. كانت هذه حكايتي مع السينما والمجلس التاديبي ورسالتي ، هذا ما جنيته على نفسي وهذه من واقعي المعيش سردتها عليكم دنما خوف ولا وجل.
زسنتعرف في المرة القادمة على البايوعي الذي باعنا.......يتبع .
كتبها المدون : تيجاني سليمان موهوبي .
mouhoubi51blogspot.com