يقول سبحانه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ومجيء قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) بعد ذكر التقوى والتوكل فيه سر لطيف، ومقصد شريف، فمن اتقى ربه وتوكل عليه، فلا يتباطأ عون الله، ولا ييأس من روحه، ولا يقنط من رحمته، ولا يقطع أمله من الفرج، فإنه إذا اتقى وتوكل فسوف يأتيه الفرج لا محالة، وسوف يجد الخروج من الضيق بلا شك، لكن للأمور أوقات، وللمقدور عمر لابد أن يقضيه حتى يصل، وكل شيء عند الله بأجل مسمى، فما على العامل إلا العمل، حتى يحين وقت الثواب، وما على الدّاعي إلا أن يدعو حتى يحصل له مراده أو خير من مراده، ولا يقول: دعوت ثم دعوت فلم يستجب لي، بل يطمئن إلى حسن اختيار ربه، وجميل صنيعه، وجليل حكمته، وسعة علمه، وكمال قدرته، وتمام رحمته. فالله جعل لكل شيء قدراً، له زمن لا يتعداه، ووقت لا يتخطاه، فإذا جاء موعد المقدور، فلا يستأخر عن وقته ساعة ولا يستقدم. للكربة وقت ثم تزول، ولها زمن ثم تحول، لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً. للمرض أيام معدودة، وليال محسوبة، ثم ينكشف لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً. للهم ساعات، وللغم أوقات، ثم ينجلي بسرور لاحق، وفجر صادق، لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً. للفقر أزمان ولو طالب، وللعدم أوقات ولو قست، ثم ينقشع، لأن الله قد جعل لكل شيء قدراً. فما عليك إلا أن تعمل وتحرص على الخير وتبذل الوسع، وتخلص السعي، وتصحح العمل، وتحقق العبودية، ثم اترك ثمرات الأعمال، ونتائج الأحوال، لذي العزة والجلال. لا تستعجل حصول المرغوب، وإزاحة المرهوب فالأمر ليس إليك، بل إلى من جعل لكل شيء قدراً. إن الإيمان بأعمار المصائب سلوة للمنكوبين، وإن التصديق بآجال المحن عزاء للمصابين، إن للمكروه زمن لا يتجاوزه أبداً فتخيلك في إزالته قبل حينه ضرب من الهوس، وفن من فنون الوسوسة، لأن مهمتك كيف يزول لا متى يزول؟ فمن حرص على كيفية زواله دعا وأخلص، وجد واجتهد، واتقى وصبر، وتوكل وأناب، وفوض الأمر إلى الملك الوهاب، ومن تعلّق قلبه بزمن الزوال، وارتحال المكروه، استبعد الفرج، واستبطأ الروح، وصاحبه الإحباط، ورافقه الفشل، وسامره اليأس، وحادثه القنوط، فلا يزال في أودية الاضطراب وطرق السخط والندم والحسرة واللوم وتمزيق القلب بسياط القلق، فقلبه فزع، وذهنه شارد، وحاله كاسف، وباله مشتت، وباطنه ناقم ثائر معترض شاك. ولو آمن أولاً بالقضاء، وسلّم الأمر لرب الأرض والسماء، وأخلص في الدعاء، وانتظر الفرج في وقته والنصر في حينه، وحسن العاقبة في زمانها، وجميل الصنع في ساعته، وفرحة إدراك المطلوب في موعده، لو فعل ذلك كله لأدرك سعادة من إذا أذنب استغفر، ومن إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، ولحصل على أعظم الأجر، وانشراح الصدر، ورفعة الذكر، فالله هو المقدر، جعل لكل شيء قدراً. لا تثمر الشجرة حتى يأتي حينها، ولا تبـزغ الشمس حتى يحل ميقاتها، ولا يطل القمر حتى يحصل زمن إطلاله، ولا تضع الحامل حملها ولا تفطم ولدها إلا بأجل، ولا يندمل الجرح، ولا يبرأ الموعوك، ولا تعود الضالة إلا بعدما يمر بالكل العمر المقدر والأجل المقرر. فاعلم أنه لا يعني بذل الأسباب حصول المطلوب في الوقت المقترح، والزمن المختار، بل في الساعة التي كتبها الله وحده، فإنه غالب على أمره، فعال لما يريد، كل شيء عنده بمقدار، وكل شيء بأجل مسمى، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وهو المقدم والمؤخر، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً، وعلّم الكائنات لطفاً وحلماً، فقد أتى أمره فلا يستعجل، وقرب فرجه الأجمل، له الحكم وإليه ترجعون، فلكل أجل كتاب، ولكل شيء حد، ولكل بلاء زمان، ولكل حدث عمر، فسبحان المدبّر جل في علاه، لا إله إلا هو.
هذا المقال للدكتور / عائض القرني .