يقف الواحد منا فيكتب كلمة ويقول عبارة ويُلقي بدرهم فيظن أنه نصر الإسلام وأهله !!
يُطلق أحدنا رصاصة ، ويشترك في غارة ، ويحمل على سرية فيظن أنه فعل وفعل !!
يخطب أحدنا خطبة ، ويكتب كتاباً ، ويصنع درساً فيظن أنه استحق رحمة الله !!
يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه "لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة ، ولا شربتم شرابا على شهوة ، ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه ، ولخرجتم الى الصعدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم ، ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل "
وأبو ذر يقول "وددت أني لم أخلق "
وكان الفاروق عمر بن الخطاب يقول لحذيفة رضي الله عنهما "أنشدك الله سمانى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم" (يعني في المنافقين) فيقول حذيفة: "لا ، ولا أزكى بعدك أحدا "
هذا هو حال الجيل الأول : جيل النُّخبة ، جيل الفضل ، جيل الأصحاب الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، القرن الأول الذي هو خير القرون كان أحدهم يخاف على نفسه النفاق ويود أن لم تلده أمه ، وقد عملوا ما عملوا ، وتحملوا في سبيل الله ما تحملوا ، وأحدنا اليوم يشارك في مظاهرة ، أو يحفظ متناً ، أو يُلقي فضل ماله في سلة الصدقات ، أو يطبع ورقة أو يوزّع شريطاً ، أو يُطلق رصاصة ، أو يُلقي بكلمات على الناس ويضمن بعدها لنفسه الفردوس الأعلى بلا حساب !!
لقد ضمن أحدنا الإيمان وأبعد عن حساباته النفاق الذي كان هاجس أمثال عمر بن الخطاب ومقلق نومه ومنغص حياته !! لقد سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول "اللهم أهلك المنافقين" فقال "يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك" ، وهذا في زمن الصحابة ، وقال ابن أبي مليكة "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل "
كم صلى الصحابة وكم صاموا ، وكم جاهدوا وكم صبروا وكم تحملوا ، وكم عادوا في سبيل الله من أهليهم وكم قتلوا ، وكم أهريق من دمائهم وكم تقطع من أجسادهم ، ثم انظروا حالهم رضي الله عنهم وأرضاهم
لا تعجبوا من قول الصحابة "اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى" ، فمقام رضى الله لا يُدرك بالأماني ، وإنما يعرف قدر هذا المقام من باع نفسه وماله لله وتعلق به ونبذ ما سواه ، وهذا مقام العارفين المؤمنين الصادقين الذين لم يأمنوا مكر الله لحظة ولم يتكلوا على أعمالهم طرفة عين فطرحوا أنفسهم على عتبات أمره يبتغون فضله خائفين وجلين مشفقين أن تُردّ البيعة لفساد البضاعة ، هذا مع عدم القنوت من رحمة الله والطمع في واسع عطائه ومنّه وكرمه ، فالمؤمن في حياته بين رغبة ورهبة وبين خوف وطمع لا يستقر له قرار ولا يهدأ له بال في سجن الدنيا حتى يدخل بكلتا رجليه الجنة ، وقد روي عن صدّيق الأمة أنه قال : "لو كانت لي رجل داخل الجنة ورجل خارجها ما أمِنتُ مكر الله "
وهذه المرتبة من الخوف والطمع لا تتأتى إلا لأصحاب الأعمال العظام ، وهم كالتاجر الذي غلب عليه البخل الشديد وله أموال كثيرة يخاف ضياعها في أي لحظة ، فهؤلاء يخافون أن يأتي الله على أعمالهم يوم القيامة فيجعلها هباء منثورا ، ولا يتّكلّون إلا على رحمة الله وسعة فضله سبحانه وتعالى ، لعلمهم بأن أعمالهم ما هي إلا وسيلة ، وأن نعمة من نِعم الله عليهم تفضل جميع ما عملوا