من هو موريس بابون؟
لم يجانب سعدي بزيان الصواب حين عرف موريس بابون بقوله "واحد وتسعون سنة، نصفها قضاها كمجرم حرب"، فبابون المولود في الثالث من سبتمبر/أيلول 1910 وصاحب الشهادات العليا في الحقوق والقانون العام والاقتصاد السياسي والذي تقلد مناصب عدة وعاصر حكومات مختلفة من بينها حكومة فيشي إبان الاحتلال الألماني لفرنسا حيث كان من أكبر ضباطها مرتبة.
بابون هذا كان واليا على منطقة قسنطينة في شرق الجزائر وأذاق سكانها الويلات بقبضته الحديدية، مستفيدا من خدمات "الحركى" ومساعدتهم للجيش الفرنسي بجمع المعلومات عن الثوار المجاهدين.
وبحكم خبرته تلك اختاره الجنرال ديغول عام 1958 رئيسا لمحافظة شرطة باريس ومقاطعة السين ليقوم "بتطهير" العاصمة الفرنسية وضواحيها من "إرهاب" اتحادية جبهة التحرير، ومنحه كامل الصلاحيات وقدم له كل الدعم الذي يطلبه.
بعد خمسة أشهر من توليه المنصب وجد بابون نفسه أمام حرب عنيفة من خلال العمليات الفدائية المكثفة التي كانت تقوم بها الاتحادية خاصة على الحركى ورجال الأمن، فوضع خطة للقضاء عليها تقوم على تنظيم شرطة موازية للشرطة الأصلية تتكون من عناصر من "الحرْكى" والعملاء يؤتى بهم من الجزائر ويزرعون في أحياء باريس الآهلة بالعمال الجزائريين لرصد تحركاتهم وتتبع نشاطهم والعمل على شل حركتهم فيما يتعلق بالقيام باجتماعات وجمع التبرعات لصالح الثورة في الجزائر.
وأعطي هؤلاء حرية التصرف للقضاء على الاتحادية، فكان أن ارتكب الحركى أبشع الأعمال بحق المهاجرين الجزائريين فقتلوا منهم الكثيرين واعتدوا على حرماتهم وانتهكوا أعراضهم. وجرت في مقابل ذلك مواجهات عنيفة بين عناصر الاتحادية والحركى أسفرت عن أعداد كبيرة من القتلى والجرحى.
مجزرة 17 أكتوبر 1961
تدخل خلفيات أحداث هذه المجزرة في إطار الاحتجاجات التي كان يقوم بها العمال المهاجرون الجزائريون على الجرائم البشعة التي كانت ترتكب في حقهم من قبل الشرطة الفرنسية وأعوانهم من الحركى، فكان أن خرجت تظاهرة سلمية نظمها هؤلاء المهاجرون في العاصمة الفرنسية تحت قيادة اتحادية جبهة التحرير وشارك فيها حوالي 30 ألف متظاهر طافوا 20 حيا من أحياء باريس المعروفة.
وصدرت أوامر موريس بابون المباشرة إلى الشرطة والحركى بالتصدي لهذه التظاهرة، مما أسفر –حسب إحصائيات اتحادية جبهة التحرير- عن 300 شهيد قضوا غرقا في نهر السين، إلى جانب 400 مفقود تساءل الكاتب عن سر اختفائهم. ثم أورد شهادات حية على أن عشرات الجثث ظلت تطفو فوق نهر السين أياما عديدة، وعشرات أخرى اكتشفت في غابتي بولونيا وفانسان، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الجزائريين تم التخلص منهم رميا من على متن الطائرات ليبتلعهم البحر بعد ذلك.
كما اعتمد الكاتب على أهم الكتب التي تحدثت عن هذه القضية الخطيرة من مثل "مجزرة في باريس" و"الحرْكى في باريس" وغيرهما، وكلها اتفقت على أن موريس بابون مجرم قام بأعمال لاإنسانية وجرائم لا حد لها خاصة ضد المهاجرين الجزائريين.
ولعل أكبر شهادة مفصلة على ذلك جاءت على لسان الكاتب الفرنسي المعروف جون لوك إنودي في كتابه "معركة باريس" حين وصف ذلك اليوم باليوم الأسود، مؤكدا أن العدد الحقيقي للضحايا يفوق 300 ضحية.
نهاية بابون والمفارقة المؤلمة
ركز بزيان على التغيرات التي طرأت في حياة موريس بابون بعد وصول الاشتراكيين إلى سدة الحكم في فرنسا في مايو/آيار 1981 برئاسة فرانسوا ميتران، إذ بدأ الخطر يتهدده لأن محيط الرئيس الفرنسي كان مليئا بشخصيات يهودية تعرف ماضيه. وفتحت الجرائد ملفاته ونشرت وثائق تؤكد تورطه في إرسال اليهود إلى معسكرات الموت في ظل حكومة فيشي العميلة للنازيين الألمان.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1981 رفع جيرار بولانجير دعوى قضائية عليه متهما إياه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وتفاعلت الأحداث وتوالت التهم على بابون، ولم ينقذه تقدمه في السن ولا مرضه من الوقوف أمام العدالة الفرنسية، إذ حوكم عام 1997 باعتباره مجرم حرب وصدر في حقه حكم بالسجن عشر سنوات نافذة. غير أن المفارقة المؤلمة أن الحكومة الفرنسية أدانت بابون لجرائمه في حق اليهود، وتجاهلت كليا جرائمه في حق الجزائريين –خاصة المهاجرين منهم- رغم ثبوتها بالأدلة القطعية.