كان عام 702م نقطة تحول تاريخية في حياة الجزائر بعد أن فتحها عقبة بن نافع رضي الله عنه الذي تمكن من تحرير كل بلاد المغرب من الاحتلال البيزنطي، فتغيرت حياة سكانها الأمازيغ جذرياً بعد أن اعتنقوا الإسلام وأسهموا في فتح الأندلس مع الجيش الأموي. وقد قامت بـ»المغرب الأوسط» أي الجزائر قديماً، دولٌ إسلامية عديدة ومتعاقبة كانت تستقل عن الخلافة المركزية الأموية ثم العباسية، وفي مقدمتها الدولة الزيرية، حيث قام بولوجين بن زيري في عام 944 م بإعادة بناء مدينة الجزائر وتحصينها وأطلق عليها لأول مرة اسم «الجزائر بني مزغنة» نسبة إلى القبائل الأمازيغية التي وجدها تسكن المدينة، ومنه اشتقت التسمية الحالية.
وفي عام 1082م دخلت المدينة تحت حكم المرابطين، ثم حكم الموحدين في عام 1152م. وتعرضت مدينة الجزائر لحملات بحرية قادتها عدة أساطيل أوروبية وكانت أشرسها تلك التي قامت بها إسبانيا في عام 1302م حيث تمكنت بعدها من احتلال إحدى الجزر المقابلة لمينائها، إلا أن الحملات الإسبانية لم تتكثف ولم تقلق سكان الجزائر الصامدة إلا بعد سقوط الأندلس في عام 1492 وفرار الكثير من سكانها المسلمين إلى المدن الساحلية الجزائرية فراراً من التنكيل الوحشي الإسباني، فلاحقتهم إسبانيا إلى الجزائر وكثفت غاراتها عليها وتمكنت من احتلال عدة مدن كوهران وبجاية ثم ركزت جهودها على مدينة الجزائر بغية احتلالها، فقاومها سكانها بكل بسالة، إلا أنهم رأوا ضرورة الاستغاثة بالخلافة العثمانية الصاعدة لإنقاذهم من مخالب الاحتلال الإسباني، فأنجدهم العثمانيون بالبحارين الأخوين عروج وخير الدين بربروس في عام 1511م، وتصدى الأخوان للحملات الإسبانية وأنقذا مدينة الجزائر ثم أعلنا انضمامها إلى الخلافة العثمانية وأطلقا على المدينة اسم «الجزائر» لأول مرة سنة 1916م، وكان ذلك نقطة تحول أخرى في تاريخ المدينة والبلد كله.
أسطول ضخم
فضلاً عن تحصين المدينة، حرصت الخلافة العثمانية بتركيا على تجهيز أسطول بحري قوي للدفاع عن مدينة الجزائر وبقية المدن الساحلية، وكذا السيطرة على حركة الملاحة في البحر المتوسط، فضلاً عن إمكانية الاستنجاد بهذا الأسطول في وقت الحاجة.
وصلت قطع الأسطول الجزائري إلى 540 سفينة، فكان أحد أقوى الأساطيل في البحر المتوسط والعالم آنذاك، وقد خاض معارك ضارية مع مختلف الأساطيل الأوروبية في البحر المتوسط، واستطاع السيطرة عليه ردحاً من الزمن، وقد جهزت إسبانيا في عام 1541 أسطولاً ضخما على متنه 30 ألف جندي بقيادة الملك شارل الخامس لتدمير الأسطول الجزائري واحتلال مدينة الجزائر، إلا أنه انكسر على سواحلها في معركةٍ تاريخية كبيرة.
ويروي المؤرخون بالكثير من التفاصيل وقائع المعارك البحرية الشرسة التي خاضها الأسطول الجزائري مع عدد من الأساطيل الأوروبية وفي مقدمتها أساطيل إسبانيا والبرتغال وانجلترا وروسيا وفرنسا وايطاليا.. طيلة أكثر من ثلاثة قرون من الحكم العثماني للجزائر «1516- 1830م»، فرادى أو مجتمعة متحالفة، كما يروون وقائع معركتين مع الأسطول الأميركي، حيث فضلت بعدها الولايات المتحدة الجنوح إلى السلم ودفع «إتاوات» للجزائر بغية المرور في البحر المتوسط بسلام.
انكسار واحتلال
بقي الأسطول الجزائري يضرب أروع الأمثلة في الجهاد البحري ويقف سدا منيعاً ضد الأطماع الاستعمارية الصليبية الأوروبية لغاية عام 1827م، حيث خاض الأسطول العثماني معركة شهيرة ضد مجموعة من الأساطيل الأوروبية الحديثة التي استفادت من الثورة الصناعية لتحديث أسلحتها وعصرنتها، فاستطاعت تدمير الأسطول العثماني عن آخره، فاستغاث بنظيره الجزائري الذي لم يتوان عن نجدته، إلا أنه لقي نفس المصير في موقعة «نافارين» الشهيرة، ولم يعد من قطعه الـ540 سوى 27 سفينة فقط، لينتهي بذلك مجد الأسطول الجزائري في البحر المتوسط بعد ثلاثة قرون كاملة.
وكان من نتائج ذلك أن استغلت فرنسا الفرصة لتحيي أطماعها الاستعمارية التي كان الأسطول الجزائري يقف حائلاً دون تحقيقها، فسيرت جيشا بحريا عام 1827 إلى السواحل الغربية للجزائر العاصمة، وحاصرتها من كل جانب، وكانت مدينة الجزائر في موقع دفاعي ضعيف، فلم تصمد طويلاً وسقطت المدينة في 5 يوليو 1830 تحت الاحتلال الفرنسي وسلم الداي حسين، آخر الحكام العثمانيين للجزائر، مفتاح المدينة للغزاة الفرنسيين مقابل السماح له بمغادرة المدينة بسلام في سفينة باتجاه الأستانة برفقة أهله وحاشيته وأمواله. واللافت للانتباه أن أول ما قامت به فرنسا بعد إحكام سيطرتها على مدينة الجزائر هو نزع الهلال من على مئذنة مسجد «كتشاوة» العثماني ونصب الصليب بدلا منه إيذاناً بتحويله إلى كنيسة أطلقت عليها اسم «كاتدرائية القديس فيليب»، وقال بعده أحد قادتهم: «الآن يمكن القول إن الصليب قد انتصر في بلاد الأمازيغ».
لم يتقبل الجزائريون فكرة تحويل مسجدهم إلى كنيسة وإسقاط الهلال ونصب الصليب بدله فدافعوا بضراوة عنه، فارتكبت فرنسا مجزرة رهيبة بحقهم وقتلت منهم 4 آلاف مصل اعتصم داخله للذود عنه بعد إخراجهم إلى «ساحة الشهداء» المجاورة للمسجد. وعلى الرغم من أن فرنسا فرضت منطقها بقوة الحديد والنار والتنكيل الوحشي بالسكان، إلا أنها لم تستطع تنفيذ مخططها الرامي إلى حمل الجزائريين على الردة عن دينهم واعتناق المسيحية بالرغم من الجهود المكثفة التي قامت بها في هذا الاتجاه طيلة 132 سنة كاملة، فحين استقلت الجزائر في 1962، لم يكن بها مسيحيون جزائريون، فاضطرت الكنائس التي بنتها فرنسا إلى إغلاق أبوابها إلى حد الساعة، وأغلبها تحول إلى مساجد أو مرافق أخرى