أبو عبيدة ابن الجراح
مقدمة
هو عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري، أبو عبيدة، مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، ومنهم من لم يذكر بين عامر والجراح (عبد الله)، وبذلك جزم مصعب الزبيري في نسب قريش، والأكثر على إثباته، وأمه: أميمة بنت غنم.
ولد سنة 40 قبل الهجرة، 584 ميلادية...
وكان رجلاً نحيفاً معروق الوجه خفيف اللحية طوالاً، أجنأ - في كاهله انْحِناء على صدره - أثرم - أي أنه قد كسرت بعض ثنيته...
قصة إسلامه:
هو أحد العشرة السابقين إلى الإسلام.
فعن يزيد بن رومان قال: انطلق ابن مظعون وعبيدة بن الحارث وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد، وأبو عبيدة بن الجراح حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه فأسلموا في ساعة واحدة، وذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم...قال الزبير بن بكار وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة، ولم يطل بها اللبث.
كان أبوعبيدة من السابقين الأولين إلى الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر،وكان إسلامه على يدي الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم...
عمره عند الإسلام:
أسلم رضي الله عنه وأرضاه في بداية الدعوة أي قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وعلى وجه التحديد يكون في السابعة والعشرين من عمره تقريباً، حيث إن مولده كان سنة أربعين قبل الهجرة، الموافق 584 ميلادية.
أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته:
في مسند أحمد وعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"
كيف تكون حياة إنسانٍ بُشّر هذه البُشرى، وكيف يكون تعامله مع الناس أجمعين، كيف تكون عبادته وأخلاقه، وأي تربية هذه التي ينتهجها النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضي الله عنهم جميعًا...
وهذه بعض المواقف التي تدل على مدى تأثره بتربية النبي صلى الله عليه وسلم له:
في السنة الثامنة للهجرة وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادة "عمرو بن العاص" إلى أرض (بلى) و (عذرة) في غزوة ذات السلاسل، ووجد عمرو بن العاص أن قوة أعدائه كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس من المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مدداً لعمرو بن العاص.
فلما قدموا عليه قال: أنا أميركم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال: إنما أنتم مددي، فلما رأى ذلك أبو عبيدة، وكان حسن الخلق متبعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فقال:
"تعلم يا عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا، وإنك إن عصيتني أطعتك. قال: فأنا أمير عليك وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك، فصلى عمرو بالناس.
جاء وفد نجران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين.
فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجر، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم ثم نظر يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يتلمس ببصره حتى رأى أبا عبييدة بن الجراح فدعاه فقال: "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.الصحابة...
في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أمينا وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح"
وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أميناً، عاش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أميناً، يحمل مسئولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعاً.
وروى الترمذي بسنده وقال حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر نعم الرجل عمر نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح"
وعن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى رسول الله قالت أبو بكر قلت ثم من قالت عمر قلت ثم من قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت ثم من قال فسكتت قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح...
ومن أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في تربيته هذا الموقف البارع، فعن عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجرَّاح قصده أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون"...
قال ابن كثير: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر.
وما كان لأبي عبيدة أن يعزم هذه العزمة إلا بروح من الله تنفض عن قلبه الطاهر السليم كل عرض من أعراض الدنيا الفانية، وتجرده من كل رابطة وآصرة إلا رابطة العقيدة..
هذه صورة أمين هذه الأمة، صورة وضيئة للذي فعل ما لم يفعله أي بشر، هذا مقام الأمين، هذا مقام عال رفيع.. انقطع عن كل شيء ووصل نفسه بالله فتقبله في كنفه،وكتب الإيمان في قلبه،وأفسح له في جنابه وأشعر برضاه فرضى.. رضيت نفسه بهذا القرب وأنست به واطمأنت إليه...