من نقاط الالتقاء بين "النظام الكوني" و "النظام القرآني": "الهدفية" التي تشمل جميع أنحاء كل واحد من النظامين. ففي النظام الكوني نجد أن كل المخلوقات التي تسبح في هذا الكون الكبير - ابتداء بالذرة وانتهاء إلى المجرة - كل هذه المخلوقات "مهدوفة". ولا نجد كائنا واحداً وهو زائد على الحياة أو طفيلي عليها.
وفي النظام القرآني نجد أن كل جملة وكل كلمة وكل حرف جاء من أجل هدف معين، ولا نجد في القرآن الكريم حتى حرفا واحداً يمكن الاستغناء عنه. وحتى لو بدا للنظرة العابرة وجود شيء زائد - سواء في النظام الكوني أو في النظام القرآني - فإن البحث الدقيق يكشف عن ضرورة معينة تتطلب وجود ذلك الشيء.
من هنا كان على من يحاول التدبر في القرآن الكريم أن يحاول اكتشاف "موقع الكلمة"، أي الهدف التي جاءت من أجله هذه الكلمة، والمغزى الذي تشير إليه؟، وسوف نستعرض فيما يلي بعض الآيات القرآنية كنماذج لينطلق منها القارئ الكريم إلى سائر الآيات.
(1)
يقول القرآن الكريم وهو يتحدث عن قصة زكريا (عليه السلام) - بعد أن بشرته الملائكة بيحيى (عليه السلام): ((قَالَ رَبّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَال كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء))(1)
ما هو موقع "كذلك" في هذه الآية الكريمة؟ ولماذا لم تكن الآية: "قال الله يفعل ما يشاء"؟ أو "إن الله يفعل ما يشاء"؟ والجواب: إن وجود كلمة "كذلك" في هذه الآية يضيف إليها بعداً جديداً هو: الدلالة على الدأب والاستمرارية.
فعندما تعجب زكريا (عليه السلام) من أن يهب الله له غلاما وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر، كان الرد أن هذه الولادة ليست بدعاً من الأمور، وإنما هي أمر مألوف ومكرر بالنسبة إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم في أوقات كثيرة على هذا النحو، ولذلك فلا داعي للتعجب من أمر هذه الولادة.
وهكذا دلت كلمة "كذلك" في هذه الآية الكريمة على سنة قديمة لله سبحانه في هذا الكون لا تدع مجالا للاستغراب من ظواهرها الجديدة.
(2)
يقول القرآن الكريم
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم))(2)
في هذه الآية نجد القرآن الكريم يضيف إلى اسم المسيح نسبه "عيسى بن مريم" (عليهما السلام)، بينما في الآية السابقة يذكر القرآن اسم موسى (عليه السلام) بشكل مجرد فيقول: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِم تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم))(3)، وقد تكرر ذلك - في آيات القرآن كثيراً(4)، وهكذا.
والجواب: لقد تركز الضغط القرآني على كلمة "ابن مريم": تأكيداً على الجانب البشري في المسيح (عليه السلام)، ونفياً مشدداً لما ادعته النصارى من وجود جانب إلهي فيه. وهكذا، يجمع القرآن بين الأفكار والمفاهيم الإلهية وبين النفي الضمني للخرافات والأباطيل.
(3)
((الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْد غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ))(5)
هذه الآية الكريم نزلت عندما اندحر الروم في أرض الشامات (وهي أقرب أرض إلى الجزيرة العربية)، وانتصر الفرس عليهم، وهزموهم هزيمة ساحقة، ولكن ما هو مغزى ورود "فِي أَدْنَى الأَرْضِ" في هذه الآية مع أن موقع المعركة كان معروفاً لدى الجميع؟ وحتى لو افترضنا أن موقع المعركة كان مجهولاً، فهل القرآن كتاب جغرافي حتى يتناول مقل هذه القضية أم هنالك أمراً آخر؟
والجواب: قد يكون قوله "فِي أَدْنَى الأَرْضِ" من أجل توضيح حجم الهزيمة التي حلت بالروم ذلك لأن القضية لم تكن لم تكن قضية جيشين يلتقيان في الصحراء ويمنى أحدهما بالفشل، فالقضية أكبر من ذلك، إنها قضية جيش غاز يغزو عدوه في عقر داره، وينتصر عليه ومن ثم يقيده بالسلاسل، ويمتهن شرفه وكرامته(6). إذن فحجم الهزيمة كبير، والمصاب فادح، ولكن رغم ذلك تشاء إرادة الله أن تعكس الأمر وتعيد للروم حريتهم واستقلالهم.
وهكذا، دل قول الله: "فِي أَدْنَى الأَرْضِ" على تلك الهزيمة العظيمة التي تدخل القدر الإلهي ليحولها إلى نصر عظيم.