أهمية التدقيق الإلزامي للاستثمار في مرحلة ما بعد الأزمة العالمية
جهانغير أكا
خلال أزمة الائتمان التي ضربت العالم عامي 2008 و2009، شهد المستثمرون العديد من الأمثلة حول النتائج المؤسفة للفشل في إجراء عمليات التدقيق الإلزامي (due diligence). فقد أدى انهيار مؤسسات كبيرة وظهور العديد من صناديق الاستثمار الاحتيالية -والتي أدت إلى سلب أموال العديد من الأفراد والمستثمرين من المؤسسات- إلى إلقاء الضوء على أهمية تطبيق عمليات تدقيق إلزامي صارمة. ويقصد بالتدقيق الإلزامي إجراء دراسة شاملة لأوضاع أية شركة لإدارة الصناديق، أو أية شركة ننوي الاستثمار فيها، من النواحي الحسابية والقانونية والمالية.
ومع عودة الثقة رويداً رويداً، وبدء الأسواق العالمية انطلاقتها نحو أداء أكثر إيجابية، فإن أصحاب رؤوس الأموال يتطلعون إلى العودة إلى استثمار أموالهم، وهذا وقت مناسب جداً للاطلاع على الأبحاث والمراجعات المهمة والتي يجب أن يكون مديرو الاستثمار والصناديق مطلعين عليها قبل اتخاذ قرار الاستثمار الأفضل لأموالك.
وبينما أدت أزمة الائتمان بالتأكيد إلى فضح المؤسسات المحتالة وتعثر المنتجات والخطط الاستثمارية، فقد كشفت في الوقت ذاته عن ضعف بعض الشركات التي ربما لم تكن تحاول خداع عملائها لكنها على أي حال خاطرت باستثماراتهم بسبب عدم تطبيق ممارسات إدارة المخاطر وعمليات الاستثمار بالشكل الصحيح. لم تكن شركة مادوف أول شركة تخدع المستثمرين وبالتأكيد لن تكون هذه الحالة الأخيرة من الاحتيال المالي واسع النطاق، لكن على المستثمرين أيضاً أن يكونوا حذرين وواعين لممارسات إدارة الصناديق التي لا تتبع المعايير اللازمة وتتسم عملياتها بضعف التنظيم والاتساق.
كيف يمكن للمستثمرين الأفراد إجراء التدقيق الإلزامي؟
التدقيق الإلزامي هو العملية التي يتم من خلالها التحقق من خلفية أنشطة مدير الصندوق أو صندوق التحوط والقرارات المالية والاستثمارية لهما. ويعني إجراء التدقيق الإلزامي إجراء تحقق كامل من المكونات والجوانب المشكلة للاستثمار. ومن المهم أن يبقى المستثمرون مدركين للأخطاء المحتملة خلال الاستثمار ومعرفة ماهية ما يستثمرون أموالهم فيه.
وبالنسبة إلى المستثمر الفرد فإن ذلك يعني عادةً الوثوق بالمؤسسة أو البنك الذي يقوم من خلاله بشراء المنتج الاستثماري، والبحث في مدى مصداقية تلك المؤسسة وسجل أعمالها وسمعتها. على المستثمرين دوماً القيام بواجبهم ليقرروا إن كان المنتج مناسباً لهم وإن كان يبدو موثوقاً (تذكروا القول المأثور: إن بدا الأمر مثالياً وجذاباً أكثر من المتوقع، فالاحتمال قائم بوجود مشكلة ما). وكمستثمرين اليوم فإن على العملاء الأفراد التقصي حول المنتج الذي تقدمه البنوك أو مستشارو الاستثمار. إلا أن هذا لا يعني أن جميع الصناديق والمنتجات ليست أهلاً للثقة أو يجب البحث في أمرها بقدر من التشكك. لكن في ظل تزايد صناديق الاستثمار والتي تفوق عدد الأسهم الفعلية في بعض المناطق، فمن الضروري المقارنة بعناية بين أفضل الخيارات المتاحة. وبعد الأزمة، فقد أصبح المستثمرون يطالبون بالمزيد من الشفافية والسيولة من قبل مديري الصناديق والمزيد من الحوكمة والضوابط من قبل جهات التشريع المالية. إلا أنه لا يتوافر سوى القليل من الأبحاث حول خلفيات الاستثمار والتي يمكن للأفراد العاديين الاطلاع عليها أو القيام بها. وما يتوقعه المستثمرون ويعتمدون عليه ويدفعون مقابله للخبراء هو التدقيق الإلزامي الأكثر عمقاً ودقة.
ومن أهم مزايا الاستثمار في صندوق معين هو أنه يمكّن المستثمر من الوصول إلى مجموعة متنوعة من الأسهم من خلال أداة واحدة، حيث يقوم فريق متخصص بالتحليل والمراقبة والشراء والبيع نيابة عن مساهمي الصندوق. ومن المنطقي والعادل افتراض وتوقع أن يجري مدير الصندوق عمليات التدقيق الإلزامي الصارم على كل سهم يستثمر فيه، وأن على البنك القيام بالتدقيق الإلزامي الصارم أيضاً على مدير الصندوق ومؤسسته للتأكد من كون المنتج مناسباً وموثوقاً به للعملاء.
ما الذي يجب أن تشتمل عليه عملية التدقيق الإلزامي الفعالة؟
تقدم العديد من كبرى مؤسسات إدارة الأصول وكذلك العديد من البنوك مجموعة من صناديق ومنتجات مختلفة يمكن لعملائهم الاستثمار من خلالها. وغالباً ما يكون لدى مؤسسة إدارة الأصول أو البنك فريق من المختصين في اختيار المنتجات، يضطلعون بمسؤولية إجراء عملية التدقيق الإلزامي قبل السماح لهم بإجراء أي عملية شراء نيابة عن العملاء. وبالطبع يمكن أن يكون هناك قدر كبير من التباين بين مدى سطحية التدقيق أو عمقه، وهذا هو الفرق بين التدقيق الصحيح والتدقيق الشكلي. فعلى سبيل المثال: من الجيد توجيه الأسئلة التي تبدأ بعبارة 'هل تقومون بذلك.. ؟'، لكن التدقيق الإلزامي الصحيح يميل إلى توجيه السؤال بصيغة 'كيف تقومون بذلك بالضبط...؟'، كما أن التدقيق الإلزامي الصحيح غالباً ما ينطوي على توجيه تلك الأسئلة بشكل منتظم، وليس في مرحلة بدء الاستثمار فحسب. وبشكل عام تبدأ عملية التحقق من الصندوق بالمسح الكمي. وهذا يعني الاطلاع على كل ما له علاقة بالأرقام والبيانات. كما أن الاطلاع على الأداء السابق يعتبر نقطة بداية، إلى جانب مقارنة أداء عائدات المدير بعائدات المديرين الآخرين ذوي المناهج الاستثمارية المشابهة، للتحقق من اتساقها مع المجموعة. ولا يكتفي التدقيق الإلزامي الصحيح بالاطلاع على أفضل 5 أو 10 استثمارات للصندوق، بل على كافة الأسهم التي اختارها مدير الصندوق. فقد يستثمر أحد المديرين في عدد قليل من الأسهم، بحيث تهيمن قلة من الخيارات الناجحة على الأداء وتغطي اختيارات الأسهم السيئة في الاستثمار. ويقوم التدقيق الإلزامي الصحيح بتحليل أرقام الأداء عبر الأسواق التي تشهد ارتفاعاً وانخفاضاً على السواء ولا يعتمد على الأرقام التراكمية للأداء أو البيانات السنوية فقط. كما أنه يأخذ بالاعتبار التذبذبات ومدى المخاطرة التي اتخذها مدير الصندوق لتحقيق عائداته. وبعد ذلك يأتي التحليل النوعي. فأرقام وإحصاءات الأداء وحدها لا تعطي الصورة كاملة دوماً، ولهذا فإن الاطلاع على السيرة الذاتية لمدير الاستثمار وعلى الموارد المتاحة في الشركة وحوافز الموظفين على سبيل المثال، جميعها مهمة لبناء صورة لكيفية إدارة وتشغيل الصندوق. ومن المحتمل في حال عدم التحقق من الجوانب النوعية أن تكون الجوانب الكمية غير ذات أهمية. فالتدقيق الإلزامي الصحيح يعمل على استكشاف التغيرات الحديثة في عمليات الصندوق ويبحث عن سبب حدوث أي تغييرات في استراتيجيات الاستثمار إن وجدت. كما أن التدقيق الإلزامي يهتم باسم مدير الصندوق وسيرته وسجل إنجازاته. ويتضمن التدقيق الإلزامي الصحيح مقابلته وفريقه وجهاً لوجه. ويمكن أن تؤثر التغييرات في العمليات على أداء الصندوق المستقبلي، مثل تغيير مستشار الاستثمار أو مدير المحفظة الذي عمل على إنجاح الصندوق، أو اقترابه من سن التقاعد.
المراقبة المستمرة والمنتظمة
كما أن المراقبة المستمرة والمنتظمة تعتبر ضرورية لضمان عدم حدوث تغييرات كبيرة في أي من العوامل التي تم اختيار الصندوق بناء عليها أصلاً. ولا يجب أن يتوقف التدقيق الإلزامي بعد اختيار المنتجات. فالتدقيق الإلزامي الصحيح يجب أن يكون عملية مستمرة تنطوي على تحليل كمي ونوعي مدروس. ومن التغيرات التي قد تحدث في ظروف إدارة الصندوق ويمكن أن تكون مصدراً للقلق ازدياد التركيز على أسهم معينة، أو التغير المستمر والملحوظ في الموظفين، أو الزيادة والنقصان الكبيرين في الأصول التي يديرها الصندوق. وتتطلب كل من هذه الحالات الاتصال بمدير الصندوق للحصول على رؤية أوضح للموقف وتحديد ما إن كانت هناك أية مخاطرة في استمرار الاستثمار في الصندوق.
إلا أن إجراء التدقيق الإلزامي الصارم ومراقبة المدير والصندوق وعدم ترك أي جانب دون دراسته، كل ذلك يتطلب موارد متخصصة للتحقق من الصناديق والمديرين. وفي الغالب فإن تقليل الاستثمار في الموارد اللازمة لهذه العملية سيؤدي إلى إجراء تدقيق شكلي يعتبر فيه استبيان المدير وتصنيف النجوم وشيء من البحث في أخبار بلومبيرغ كافياً. وهذا يقودنا إلى سؤال هام حول الأبحاث المستقلة. فالتحليل الموضوعي يمكن أحياناُ أن يكون منحازاً إذا تم في داخل شركة إدارة الصندوق حيث قد تؤثر اعتبارات العمل على اعتبارات الاستثمار. وقد تقدم بعض مؤسسات إدارة الصناديق تعويضات أكثر منافسة ورسوم إدارة أفضل قد تجذب القرار تجاهها. ويجب على عملية التدقيق الإلزامي أن تكون دوماً مستقلة تكون فيها مصالح المستثمرين العامل الأكثر أهمية.
التدقيق الإلزامي في أعقاب الأزمة
حتى مع تشديد الجهات التشريعية في القطاع المالي إجراءاتها بعد حادثة مادوف، فما تزال هناك إخفاقات في عالم الاستثمار يقع فيها المستثمر غير الحذر. وقد لا يكون المستثمرون الأفراد قادرين على إجراء التدقيق الإلزامي الصارم في كل جوانب استثمارهم، لكنهم من خلال المطالبة بالمزيد من الشفافية وتوجيه الأسئلة حول السيولة والحوكمة والضوابط والتعرف إلى احتمالات الإخفاق، يستطيعون المساهمة في زيادة درجة الإشراف ورفع القطاع إلى مستويات أعلى من معايير المسؤولية تجاه المنتجات التي يتم بيعها.
وسيشكل هذا الأمر تحدياً لأولئك الذين يتبعون معايير غامضة أو ضعيفة للتدقيق الإلزامي، لكنه في الوقت ذاته سيكون مرحباً به من قبل الشركات التي طالما عملت على تطبيق الممارسات الصارمة فيها. فالاضطرابات والفضائح المالية التي حدثت مؤخراً على مستوى العالم وضعت الجميع في قارب واحد، لكن كانت هناك ولا تزال الكثير من الشركات تعتبر الشفافية أولوية أساسية لديها، وتجري عمليات التدقيق الإلزامي ومراقبة المخاطر بصرامة تامة.
* إس إي آي للاستثمار (الشرق الأوسط)