ديون العالم الثالث.. هل هي استعمار جديد؟
د.ناصر المعلم
بعد أن اجتازت البشرية مرحلة الاستعمار العسكري وهو استعمار مباشر ومكشوف جاء الآن دور الاستعمار الاقتصادي وهو استعمار جديد وخبيث يتم بطرق احتيالية كأن تسيطر دولة ما على البنية الاقتصادية لدولة أخرى وتثقلها بالديون قانونيا بعقود وبنود مختلفة.
وبعد الحرب العالمية الثانية وضعت الولايات المتحدة خطة مارشال بقصد إعادة إعمار أوروبا واستثمرت بشكل كثيف في الاقتصاد الأوروبي لمساعدته على النهوض، وأصبحت البلدان الأوروبية بسرعة فائقة شركاء اقتصاديين مفضلين, لقد شرعت الولايات المتحدة في منعطف جديد تشاطرها المملكة المتحدة الاتجاه نفسه بزيادة قوية في معدلات الفائدة وذلك بقصد جذب الرساميل ومن ثم إنعاش الآلة الاقتصادية الغربية ولو عن طريق استدراج مستثمري العالم لإيداع أموالهم لديهم. لقد أدت البرامج التي فرضتها أمريكا إلى معاناة بشرية ونشرت البؤس والفساد بعد أن دعمت أنظمة وصفت بأنها شمولية وإجرامية, ومن أجل الخروج من الأزمات التي أصابتها وإعادة تأكيد زعامتها على العالم بعد توالي فشلها في فيتنام عام 1975 وإيران ونيكاراجوا عام 1979، وبعد أن قوبلت الدول النامية بسياسات مجحفة بدأ الاستعمار الغربي انحساره عن الشعوب وبدأت الدول الناشئة التي هي على غرار الدول الخليجية بحكم تمتعها بوفرة في الثروات الطبيعية تشهد مرحلة من التنمية والازدهار على الرغم من مراحل التخلف الاقتصادي الذي وصمت به طيلة عقود مضت, هذه الدول وهي تسعى جاهدة لتعديل اقتصادياتها حتى تتوافق مع الاقتصاد العالمي بأي ثمن تركت اقتصادياتها تابعة وهي مجبرة في ذلك.
ونتيجة لذلك، فإن الأزمات التي نالت اقتصاد الدول المستعمرة ''بكسر الراء'' قد انسحبت تلقائيا على الدول الناشئة, فأدى ذلك إلى تخفيض سعر عملتها الوطنية أمام العملات العالمية، وإلى فتح الأبواب لدخول الشركات عابرة القارات، وإلغاء دعم السلع المعيشية اللازمة, أدى ذلك أيضا إلى فشل المشاريع الاقتصادية في عديد من الدول التي لبست ثوب التنمية الغربية المفصل على مقاسها، فأصبحت الأزمات المالية الغربية هي أزماتها، وفي مقدمتها التراكم في الديون، وبدأت طوعا أو كراهية في الحديث عن طلب تأخير تسديد الأقساط في مواعيدها، ثم اضطرت إلى إعادة جدولة الأقساط أو إلى مزيد من الاقتراض فازدادت الأمور سوءا, لقد تحدثت بعض الدوائر عن التقشف بعد أن سقطت في شرك الديون المتراكمة، واضطرت إلى خفض إنفاقها على حاجات أساسية كالمستشفيات والتعليم والدعم السلعي. أي أن كل ذلك جاء على حساب المواطن فارتفعت أسعار المواد الغذائية وتدهورت البنية التحتية وازدادت البطالة وضرب الاستثمار وخفضت قيمة العملة المحلية، ما أدى إلى تدهور المستوى المعيشي, وإذا كانت المنظمات العالمية - كصندوق النقد الدولي - تحركها دول كبرى كأمريكا ما زالوا يتآمرون في إيقاع عديد من الضحايا في شرك الديون تحت مسميات مختلفة كالتنمية وحرية التجارة.
فنظرية تدفق رأس المال من الدول الغنية إلى الدول النامية تبدو نظرية منطقية ولكن الواقع العملي يدحض ذلك، صندوق النقد الدولي وإن بقي الملجأ الوحيد وقبل إقراض المال اللازم الذي يتيح إنقاذ دائني العالم بشرط قبول البلد المعني تطبيق سياسة معدة سلفا من قبل خبراء الصندوق وشروطه, أي انتقلت السياسة الاقتصادية للدول المستدينة إلى تحكم صندوق النقد الدولي وهو الذي قدر في نيسان (أبريل) الماضي في تقريره عن الاستقرار المالي العالمي أن خسائر البنوك العالمية وصلت إلى أربعة تريليونات دولار, البنوك بدأت في تحقيق أرباح بعد خسائرها الكبيرة في مواجهة الاضطرابات المالية العالمية لكن التقرير حثها على الاحتفاظ بأرباحها وعدم صرف توزيعات أرباح, وستتضح الصورة قريبا ونحن في بداية السنة الجديدة عندما تقوم البنوك بتوزيع العلاوات في الرواتب والمكافآت على الموظفين لكل حسب جدارته بناء على ما تدعيه الإدارات.
بعض البنوك أخذت تتلاعب بالقروض وشكلت دوائر مختلفة وعينت الموظفين واستغلت قضية القروض باعتبارها قضية العصر المربحة فباعت واشترت فيها وهذا يذكرنا بأوضاع السوق العقارية وما جرى فيها من قبل، حيث كانت تباع الوحدة العقارية عدة مرات في يوم واحد, تاريخيا وفي عام 1990 تأسست لجنة إلغاء ديون العالم الثالث CADTM في بلجيكا وهي شبكة دولية تعتمد على لجان محلية في أوروبا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا وتعد نفسها جزءاً من الحركة المناهضة للعولمة وتعمل بالتنسيق مع منظمات وحركات دولية تناضل من أجل إلغاء الديون والتخلي عن سياسات التكييف الهيكلي وتسعى لتطوير بدائل جذرية تهدف إلى تقديم الحاجات والحريات وحقوق الإنسان الأساسية. وتعتقد اللجنة أن الدين باق طالما أنّه يتضخم ويقتطع جزءاً من الثروات التي تنتجها شعوب العالم, وتدعو إلى إلغاء ديون العالم الثالث وإلى إطلاق منطقٍ اقتصادي يحترم الإنسان والبيئة وهو معاكسٍ للمنطق النيوليبرالي الذي فرض بالقوة عبر دينٍ ينبغي المطالبة بإلغائه الفوري, فإلغاء الديون الخارجية للدول ليس غايةً في حدّ ذاته بل هو وسيلة وشرطٌ ضروري لكن غير كافٍ للتنمية المستدامة والعادلةً. إن المؤسسات الدولية ارتكبت جرائم أخرى وذلك بعد أن عالجت الديون بمزيد من الديون واستبدلت بعض الديون ببيع القطاع العام وفضلت النخب الغنية في بلدان العالم الثالث الذين يشتركون مع الأجنبي ودمرت البيئة، إذ اضطرت بعض الدول في نضالها للتخلص من عبء ديونها لحرق غاباتها الطبيعية لكي تنشئ على أرضها الشركات العملاقة ومشروعاتها كما حدث في دول أمريكا اللاتينية, فأين قمة كوبنهاجن من كل هذا؟ إلغاء الديون الخارجية للدول والتخلي عن سياسات التكييف الهيكلي التي فرضها صندوقا النقد والبنك الدوليان بهدف وضع نهايةٍ مرضية للديون, فلهذه القروض أهداف عديدة واضحة أولها دعم حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين, ولوقف تطور بعض السياسات الرامية إلى الحصول على استقلال اقتصادي, وإذا كانت القضية ليست قضية استعمار جديد فلماذا استفاد العراق الذي تحتله الولايات المتحدة وحلفاؤها احتلالاً غير مشروع من إلغاء 80 في المائة من ديونه في حين لم تتمكن كثير من الدول الفقيرة الحصول على أدنى تخفيض؟ يبرز في هذا الخضم نادي باريس الذي يضم 19 دولة ويفتقر إلى الوجود الشرعي باعتباره مؤسسة غير فاعلة في العلاقات المالية الدولية, بل إن ما دفع به هذا النادي هو السبب الأساسي للأزمات التي يعانيها كثير من البلدان النامية, وطالبت لجنة إلغاء ديون العالم الثالث بإلغاء نادي باريس، وذلك من أجل المساهمة في قيام عالم مبني على سيادة الشعوب والتضامن الدولي والمساواة والعدالة الاجتماعية. الأزمة المالية الحالية كما نعلم ارتبطت بما أطلق عليه بالقروض العالية المخاطر التي نتجت بسبب توسع المصارف في منح قروض عقارية دون ضمانات حقيقية, ما ولد إقبالا كبيرا لدى المواطنين الأمريكيين وصل إلى حد التهافت على شراء المساكن, وحيث تأثرت اقتصادات أغلب دول العالم بالأزمة المالية الأمريكية، فإن مشكلة ديون دبي وهي التي أشبعت نقاشا لا تعدو جزءا من هذه الأزمة، والأحداث غير المتوقعة أظهرت مخاطر محتملة يمكن أن تطرح تهديدات لعملية الانتعاش الاقتصادي العالمية.
وقد تحدث البعض عن تقدم داخل الأسواق المالية وعودة في النمو في أماكن كثيرة في مختلف أنحاء العالم, وفي نهاية المطاف في ظل ظهور استعمار اقتصادي جديد، ولم تعد ثمة حاجة إلى إعالة إدارة جيش استعماري عفى عليه الزمن، لأن آلية الديون ستقوم بالمهمة نفسها وأعظم، وتجعلنا نتيقن أن الاقتصاد الغربي ما هو إلا نمر من ورق قائم على فقاعة من الديون وأن الدول الغربية ستقف بقوة في وجه كل من يحاكيها أو يقلدها في صناعتها أو يعرف سر المهنة التي أدارتها بحنكة واقتدار, فإن عدو المرء من يعمل عمله, وتبقى مسألة ديون العالم الثالث بمثابة استعمار جديد, لقد تحول الصراع من صراع بين الطبقة العاملة العالمية والرأسمال العالمي إلى صراع بين دائنين ومديونين, فيا مديني العالم اتحدوا.
نقلا عن صحيفة "الإقتصادية" السعودية