لا يُلام أحدٌ إذا أغلَق التِّلفاز أمام اجتِماعات الأمم المتَّحدة، ولا عَتْبَ عليه إن صَمَّ أذنَيْه عن تصريحات الجامعة العربية؛ فما أكثرَ كلامَهم الذي مللْنا سماعَه، ومع ذلك فلا زال بعض المسؤولين يقولونه كأنَّنا لا نعي الحقيقة، أو قد غاضَ ماء الحياء من وجوههم.
وما حدَث في المياه الدوليَّة من الجنود اليهود لا يحتاج إلى تحليل، فليت لنا واحدًا بالألف من جرأة اليهود على قطرة ماء دوليَّة واحدة، أو على "الشرعية" التي لا يُؤمِن بها الأقوياء ويتغنَّى بها المساكين، وما أوثقَ الصَّهاينة بأنفسهم التي لم تتردَّد، أو تسوِّل لهم التريُّث لأنَّها حملة سلميَّة، ومساعدات إنسانيَّة، ولم يلتفتوا لأيِّ احتِمال للإدانة، أو اتِّهام بالإرهاب، وللحقيقة ففعلهم فعل الأقوياء، وإن كانوا مجرمين معتدين مُبغضين، إلا أنَّنا لا نُخفِي إعجابَنا بتصويبهم على الهدف، دون أن تهتزَّ لهم شعرة واحدة!
ومع جرأة يهود نلحظ تَماسُكهم الظَّاهر، فالسِّياسي يخطِّط، والعسكري ينفِّذ، والدِّيني يسوِّغ، والإعلامي يُعِيد تصوير المشهد، والثَّقافي يُدافِع، والعامَّة إمَّا ساكت راضٍ، أو منصرف غير آبه، وكل مُعارِض يتفهَّم وجهة النَّظر الأخرى، فاللهمَّ أسبِغ على مجتمعات المسلمين مثلَ هذه المنظومة المُتَوافِقة بحقٍّ وعدل وإحسان.
وما أحرى الشُّعوب بانتِزاع زِمام المبادرة، والهبَّة لنصرة إخوانهم في فلسطين عامَّة، وفي غزَّة على وجه الخصوص، فالحكومات الحاليَّة ليست في مستوى جرأة حكومة الاحتِلال، ويبدو أنَّ الأنظمة المعنيَّة لا تأبه لهذا الواجب، ولا تستَحِي من الله، ولا تُراعِي غضبة الأغيار، ولا تأنف من الفضيحة إن حالاً أو مآلاً، بتاريخٍ سيكون شاهدًا مصدَّقًا.
ولتكن هذه أوَّلَ قضيَّة نتحرَّر فيها من سيطرة الحكومات وتوجيهها، فالبحر يبتَهِج بالأحرار، والأرض تسعد بخطوهم، وربَّما أنَّ حكومات العرب ترضَى بهذه الاستقلاليَّة ولو من باب حكمة أبي سفيان - رضِي الله عنْه - فهي لم تأمر بها، والحركة لا تسوءها في شيء، بل هذا أفضل دليلٍ على ديمقراطيَّتها لتُجابِه به تقارير الحكومة الأمريكية!
ومن الحكمة التي تُعِين على تحقيق المقصود أن تنطَلِق الأعمال من دول لا خشية من غوائلها؛ بسبب انفِتاحها مع بعض الحريَّة والنِّظام؛ كالكويت وقطر مثلاً، أو لتعاطفها؛ كالجزائر واليونان، أو لذلك كلِّه مع شيءٍ من المواقف الفريدة كتركيا، ومن المناسب التَّنسيق مع المؤسَّسات الأوروبيَّة والأمريكيَّة والآسيويَّة، وإشراك مُواطِنين من دول قويَّة؛ حتى نكسب تَعاطُف العالم، ونحرج الحكومات الصَّامتة أمام شعوبها.
كما أنَّ حضور الإعلام الغربي والعربي مؤثِّر جدًّا في خلخلة الصُّورة الذِّهنيَّة عن دولة إسرائيل، ومفيدٌ لتعرية القنوات العربية التي تصَهْينَتْ أكثر من بني صِهيَوْن، وفيه كسبٌ لمواقف الإعلاميين والكُتَّاب الذين يقفون على الحدث بلا وسيط، وكم للصُّورة والكلمة من تأثير!
ولا يكتمل الحديث عن الأسطول دون الإشادة بتركيا المسلمة، ورئيس وزرائها الشُّجاع، وشعبها العائد لأمَّته بقوَّة، وبعيدًا عن التَّفسيرات الدِّعائيَّة للتحرُّك التُّركي، فعلى المسلمين التَّرحيب بهذه العودة من خِلال إقامة المعارض المتنوِّعة، وشراء المنتجات التركيَّة، وقصدها للسياحة، وإقامة المؤتمرات فيها، وتأييد الموقف التُّركي من قِبَل النُّخَب المؤثِّرة، وزيارة السفارات التُّركية لإظهار المساندة، مع مطالبة المجالس النِّيابيَّة لحكوماتها العربيَّة باقتِفاء أثر تركيا بفعلٍ وإن كان يسيرًا.
وآمل ألاَّ تقف الجهود عند رفع الحصار عن غزَّة مع أهميَّته؛ فلفلسطين ومقدَّساتها واجبٌ في أعناقنا، ولغيرها من بِقاع المسلمين حقٌّ لا يُنكَر على إخوانهم في الدِّين، وقد أبدَتْ لنا السِّنون المتعاقِبة عجز الحكومات - إذا أحسنَّا بها الظن - وهذا عصر الشُّعوب، ومؤسَّسات المجتمع، والنُّخَب المؤثِّرة، والوسائل الموجَّهة، والمجموع الفاعل بكافَّة شرائحه، عسى أن تستَعِيد أمَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكانتها، وإني لعلى يقينٍ أنَّ هذا الهدف سيتحقَّق إذا توكَّلنا على الله، ثمَّ توجهنا إليه عبر وسائل ومستويات متعدِّدة، بلا هيبةٍ ولا وجلٍ ولا (ولكن)!