ما المقصود بدراسة التاريخ ؟ و ما هي دلاله لفظ التاريخ؟ و هل يستدعى مضمونه الغور في أعماقه إلى هذا الحد ؟ و هل التاريخ علم أم فن ؟
دعونا نجيب على هذه الأسئلة بقدر المستطاع .
دلاله لفظ (التاريخ) :
يدل لفظ التاريخ على معان متفاوتة فيعتبر بعض الكتاب أن التاريخ يشتمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون كله ، بما يحويه من أجرام و كواكب و من بينها الأرض و ما جرى على سطحها من حوادث الإنسان .
و يقصر أغلب المؤرخين معنى التاريخ على بحث واستقصاء حوادث الماضي ، كما يدل على ذلك لفظ (Historia) المستمد من الأصل اليوناني القديم ، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك على الصخر والأرض بتسجيل أو وصف أخبار الحوادث التي ألمت بالشعوب و الأفراد .
و قد تدل كلمة تاريخ على مطلق مجرى الحوادث الفعلي الذي يصنعه الأبطال و الشعوب و التي وقعت منذ أقدم العصور و استمرت و تطورت في الزمان و المكان حتى الوقت الحاضر .
و في اللغة العربية التاريخ أو التأريخ يعنى الإعلام بالوقت ، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته و وقته الذي ينتهي إليه زمنه و يلتحق به ما يتفق من الحوادث و الوقائع الجليلة .
وهو فن يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين و التوقيت و موضوعه الإنسان و الزمان .
و حينما اخذ الإنسان البدائي منذ فجر المدنية يقص على أبنائه قصص أسلافه ممتزجة بأساطيره و معتقداته ، بدأ التاريخ يظهر إلى حيز الوجود في صورة بدائية أولية و بدأ الإحساس به يتكون في ذهن البشرية منذ أقدم العصور و تدرج التعبير عن التاريخ مختلطاً اولاً بعناصر من الفن ، كالرسم و النقش على الحجر ، و عندما سارت البشرية قدماًفي مضمار الحضارة رويداً رويداً اخذ التاريخ يشكل اساساً جوهرياً في تسجيل موكب البشرية الحافل بالأحداث و اصبح التاريخ هو المرآة أو السجل أو الكتاب الشامل الذي يقدم لنا الواناً من الأحداث و فنونا من الأفكار و صنوفاً من
الأعمال و الآثار .
التاريخ علم أم فن :
في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين اختلف بعض رجال العلم و التاريخ و الأدب ، في وصف التاريخ بصفة العلم أو نفيها عنه فقال بعض العلماء : إن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً لأنه يعجز عن إخضاع الوقائع التاريخية لما يخضعها له العلم من المشاهدة و الفحص و التجربة و بذلك لا يمكن استخلاص قوانين علمية ثابتة ، على نحو ما هو موجود بالنسبة لعلم الطبيعة أو الكيمياء مثلاً .
و مما يبعد بالتاريخ عن صفة العلم في نظرهم ، قيام عنصر المصادفة احياناً ، و وجود عنصر الشخصية الإنسانية و حرية الإرادة مما يهدم الجهود الرامية إلي إقامة التاريخ على أسس علمية .
و على الجانب الآخر يرى بعض رجال الأدب انه سواء كان التاريخ علماً أم لم يكن ، فهو فن من الفنون ، و أن العلم لا يمكن أن يعطينا عن الماضي سوى بعض العظام المعروقة اليابسة ، و انه لابد من الاستعانة بالخيال لكي نستنطق تلك العظام و تبعث فيها الحياة ، وهي بحاجة كذلك إلى براعة الكاتب حتى تبرز في الثوب اللائق بها، فمثلا لا يستطيع العلم الطبيعي أن يفسر لنا حريق موسكو في عهد نابليون بونابرت سنة 1812 إلا على أساس قوانين الاشتعال و لابد من تدخل المؤرخ لكي يشرح الأسباب والظروف السياسية و العسكرية التي أدت إلى ذلك الحريق فكل من العالم الطبيعي والمؤرخ يشرح الحادث بطريقته و كل منهما يكمل الآخر و كلاهما ضروري لتقدم المعرفة الإنسانية .
و يرى بعض العلماء مثل (هرنشو) انه على الرغم من إننا لا يمكننا أن نستخلص من دراسة التاريخ قوانين علمية ثابتة على غرار ما هو كائن في العلوم الطبيعية إلا إن هذا لا يجوز أن يجرد التاريخ من صفة العلم و يقول انه يكفى إسناد صفة العلم إلى موضوع ما،إذا مضى الباحث في دراسته و كان يتوخى الحقيقة و أن يؤسس بحثه على حكم ناقد بعيداً الأهواء و الميول الشخصية و كان يصبو فقط إلى إظهار الحقيقة المجردة.
و يقول : إن التاريخ ليس علم تجربة و اختبار و لكنه علم نقد و تحليل و تحقيق و إن اقرب العلوم الطبيعية شبهاً به هو علم الجيولوجيا ، فكل من الجيولوجي و المؤرخ يدرس آثار الماضي و مخلفاته لكي يستخلص ما يمكنه استخلاصه عن الماضي والحاضر على السواء و يزيد عمل المؤرخ عن عمل الجيولوجي من حيث اضطرار الأول إلى أن يدرس و يفسر العامل البشرى الإرادي الانفعالى ، حتى يقترب بقدر المستطاع من الحقائق التاريخية ، و على ذلك نجد أن التاريخ مزاج من العلم و الفن و الأدب في وقت واحد .
أهميه التاريخ :
لا يستطيع الإنسان أن يفهم نفسه و حاضره دون أن يفهم الماضي و معرفة الماضي تكسبه خبرة السنين الطويلة و التأمل في الماضي يبعد الإنسان عن ذاته ، فيرى ما لا يراه في نفسه بسهولة من مزايا الغير و أخطائه ، و يجعله ذلك اقدر على فهم نفسه و أقدر على حسن التصرف في الحاضر و المستقبل بعد أن يأخذ الخبرة و العظة من الماضي .
إن ماضي الشعوب و ماضي الإنسان حافل بشتى الصور و هو عزيز عليه في كل أدواره ، سواء أكانت عهود المجد و القوة و الرفاهية أم عهود الكوارث و الآلام و المحن ، و الشعوب التي لا تعرف لها ماضياً محدداً مدروساً بقدر المستطاع ، لا يعدون من شعوب الأرض المتحضرة .
و على ذلك نجد انه لا غنى للإنسان عن دراسة ماضية باعتباره كائناً اجتماعياًًً فينبغى عليه أن يعرف تاريخ تطوره و تاريخ أعماله و آثاره ليدرك من هو حقاً و إلى من ينتمي .