العودة لمنطقة الجبل الأزرق
بعد الاتصال بالقائد زيان عاشور كما سبق وأن أشرت إليه أنفا عاد فوجنا نحو ميدان عملياته بنفس الأسلوب الذي كنا قد اتبعناه أثناء ذهابنا إلى أولاد جلال وكذا في نفس الظروف التي ميزها الغموض في بعض المواقف ناهيك عن ملاحقات العدو وأذنابه وألاعيبه إلى غير ذلك من العراقيل والصعوبات التي كادت أن تثنينا عن مواصلة المهمة ...
وكانت وجهتنا ثانية باتجاه الجبل الأزرق لاعتقادنا أنه يوفر لنا حرية الحركة وبالتالي علينا أن نتخذه منطلقا لعملياتنا المقبلة عبر كامل المنطقة ..والى هنا كانت الأمور عادية بحيث كنت أقوم بعملي بصفتي ممرضا للفوج ولم يدخلني أدنى شك في تصرفات وتوجهات رفقائي من عناصر الفوج وبالخصوص مسؤول الفوج المدعو "العربي القبايلي"الذي سيظهر فيما بعد على غير حقيقته ، ويكتشف أمره تدريجيا عقب وصولنا لمنطقة الجبل الأزرق ، ذلك أن الجبل قد عرف مستجدات ونشاطات خلال غيابنا عن المنطقة بحيث تم في نهاية صيف عام 1956 تعيين أحد المجاهدين يدعى عبد الرحمان بن الهادي كمسؤول لفرقة لجيش التحرير الوطني وحدد مجال نشاطها بالجبل الأزرق وأطرافه ولما عدنا إليه وجدنا الأمر قد تغير وبالتالي أمرنا قائد الفوج بمغادرة الجبل على الفور دون أن نعرف الأسباب الجوهرية لذلك ما عدا هو فانتقلنا على الفور نحو جبل السحاري وعسكرنا به فترة من الوقت قمنا خلالها بنشاطات سياسية وعسكرية تمثلت الأولى في مجال التنظيم والتوعية في أوساط السكان لتنويرهم برسالة الثورة وبصواب مقصدها .في حين كانت الثانية في الميدان العسكري كنصب الكمائن لقوافله العسكرية،وتخريب منشآته الاقتصادية مثل حرق الحافلة التي كانت تعمل على الخط الرابط مابين مدينة الجلفة وقرية الادريسية والتي تعود ملكيتها لأحد المعمرين من سكان الجهة.وكذا الكمين الذي وقع بالمكان المسمى "شجرة الدهان" لقافلة عسكرية وحققنا فيه نجاحا معتبرا دعم إلى حد كبير ما كنا ندعو الناس إليه .
وبعد هذه النشاطات السياسية والعسكرية بجبل السحاري تابعنا تحركنا في ذات الظروف الأمنية العسيرة باتجاه جبل أخر بالمنطقة يدعى" جبل بن يعقوب "وهو غير بعيد عن الأول وبه قمنا أيضا بنصب كمين ثاني لقافلة عسكرية بناحية الشارف
قائد الفوج يكشف عن خيانته وتآمره
من المفيد قبل التحدث عن خيانة قائد الفوج وتآمره على الثورة وانحرافه عن خطها السوي أن أقدم ملخصا لحديث ذو أبعاد جرى بيني وبين قائد فوجنا ذات يوم حيث دفعت بي الظروف إلى العمل تحت قيادته في هذه الفترة الحرجة من حياتي النضالية لقد كنا ذات يوم في حالة استرخاء بإحدى جبال الناحية وخلال تبادل الحديث معه أفضى لي بما كان يملأ قلبه بعد أن وثق بي بحكم عملي كممرض للفوج ولكوني أعرف اللغة الفرنسية جيدا والتي كان يحسنها هو أيضا فصرت من اقرب الناس إليه تحدث عن نضاله بفرنسا وكيف أنهم كانوا يعتقدون بأن الثورة التي أندلعت في ربوع الوطن في ليلة أول نوفمبر 1954 ستكون باسم زعيم الحزب المرحوم" مصالي الحاج"لكن للأسف تناقلت معظم وكالات الأنباء نبأ قيام الثورة باسم أخر هو جبهة التحرير الوطني وهالنا ما سمعنا وأصبنا بصدمة عنيفة فلم نستطع قبول أو هضم ذلك على الإطلاق وعشنا خلالها فترة من الضيق والضياع ولتبيان الحقيقة والخروج مما كنا عليه من بلبلة وغموض اتجهنا إلى زعيم الحزب "مصالي الحاج "وعرضنا عليه الأمر فقال لنا (اتركوهم نجرب بهم ) فتقبلنا النصيحة في أول الأمر، وعاد كل واحد منا إلى موقعه..لكن أخبار الثورة وأنتصاراتها الميدانية التي باتت تتصدر الصفحات الأولى لمعظم الصحف الفرنسية والقنوات الإذاعية مما زاد من غضبنا وحقدنا على قيادة الثورة وكيف تحدت وتجاوزت زعيم الحزب وأعلنت الثورة بغير اسمه.فقررنا ثانية العودة إليه في منفاه لأخذ رأيه فيما يجري.و لإيجاد منفذ للخروج من هذا الوضع النفسي المتأزم الذي تمكن من نفوسنا وبعد حديث مطول معه في الموضوع قال لنا "دبروا رأسكم" فتدبرنا أمرنا وقسمنا المناضلين الذين مازالوا على ولائهم لزعيم الحزب إلى مجموعات والاستعداد للسفر إلى ارض الوطن لمباشرة العمل المسلح باسم زعيم الحزب مصالي الحاج.
وضمن هذا الإطار سافرت المجموعات إلى الجزائر وتوجهت كل مجموعة إلى المكان الذي حدد لها من قبل فتوجهت مجموعتي نحو جبال تيزي وزو باعتبارها مسقط رأسي وبعد وصولنا مكثنا فترة من الوقت استطلعنا خلالها الأوضاع ومجرياتها بالناحية ثم شرعنا بعدها في تنفيذ الشق الثاني من خطتنا، فاتصلنا في بداية الأمر بالسيد محمد بلونيس الذي كان يمثل الرقم الثاني في الحزب وممثله بدون منازع وبعد الحديث معه في الموضوع اقترح علينا ضرورة التحرك جنوبا على أساس أن هناك جيش في الصحراء يؤدي واجبه تحت راية الزعيم "مصالي الحاج"وتصورت في البداية أن الجيش الذي كان يقصده هو الذي كان يتولى قيادته" الشهيد زيان عاشور".لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما...
من هنا بدأت اشك فيه وتأكد لي شيئا فشيئا تآمره على الثورة وبات من الواضح أن أتدبر أمري قبل فوات الأوان ، وأن أبقى دوما في أعلى درجات اليقظة تحسبا لأي تصرف متوقع منهم أن هم تأكدوا من ولائي التام لجبهة وجيش التحرير الوطني .لقد أخفيت عنهم ولائي للجبهة وجاريتهم في الموضوع وبعد فترة من الوقت تأكدت قطعيا من خيانته للثورة وهذا من خلال قرائن وأدلة إثبات واضحة.
ومن بين ذلك أذكر أنه ذات يوم وبينما كنا متمركزين بجبل بن يعقوب ظهر بموقعنا فجأة شخصان هما "بن مخلوف وقدور بن لحبيب" اللذين كنت اعرفهما جيدا من خلال عملهما الجبان وعمالتهما للشرطة السرية الفرنسية إذ كانا يتابعان ويرصدان تحركات ونشاطات رجال الحركة الوطنية بالمنطقة وتبليغها إلى أجهزة الأمن الفرنسية أولا بأول ، فدخلني الشك من وجودهما وحاولت أن اربط بين وجود هذين الشخصين في هذا الوقت وفي هذا المكان بالذات وبين بعض التصرفات الغريبة التي قد سجلتها عن "العربي القبايلي" من قبل .ولم أجد لذلك سوى تفسيرا واحدا وهو أنهم جميعا خونة ويعملون لصالح المخابرات الفرنسية ، وقد صدق توقعي وحدسي ، إذ قدما تصريحا ( جواز مرور) صادرا عن المخابرات الفرنسية بالجهة يخول لهما الاتصال مع فوجنا لكني تدخلت وأخبرته عن طبيعة هذين الشخصين وأنه لا يمكن الوثوق فيهما بالنظر لماضيهما،إلا أنه قال لي دعهما وشأنهما يمكن أن يقدما لنا خدمة نحن في حاجة إليها ، وتظاهرت بقناعة جوابه والامتثال لأوامره..وقد ظهرت الحقيقة عارية حقيقة عمالتهم وخيانتهم للثورة والعمل ضدها إذ تقدم ابن مخلوف بن مبروك يطلب من قائد الفوج العربي القبايلي أن يكتب رسالة شكر لرئيس دائرة الأغواط "أبرياك"يعبر له فيها عن شكره وامتنانه لموقفه السلمي الذي اتخذه عقب العملية الفدائية التي نفذها أحد الفدائيين بالمدينة ضد مفتش شرطة المدينة ، وكتب الرسالة فعلا وتم إرسالها بواسطة بريد عين الإبل وبعد عدة أيام اتصل بنا" بن مبروك" وكنا يومها بجبل قعيقع.وتحدث عن هذه الرسالة التي كانت وصلت فعلا لرئيس الدائرة وقد شكره "العربي"على اقتراحه هذا...
التخطيط للفرار من صف الخيانة إلى صف الثورة ..
عشت بعد تأكدي من خيانة قائد فوجي فترة من الخوف والضياع .ورغم هذا فقد واصلت العمل معه محاولا إقناعه بخطورة الرجل وعمالته للعدو، ولكنه كان في كل مرة يختلق لي
الأسباب والمبررات لإقناعي بعدم صواب أطروحاتي وأحكامي المبررة اتجاه الرجل "بن مبروك"وكانت محاولاتي في الحقيقة هي بهدف إبعاد التهمة عنه حتى لايتغلب علي ويقضي علي قبل أن أدبر أمري بالفرار من صف الخيانة وهكذا وفي شتاء عام 1957 عدنا ثانية إلى جبل بن يعقوب بعد أن تركنا موقعنا بجبل قعيقع ، وهذا في إطار تنقلاتنا العادية لكن هاجس الخوف والوصول إلى سبيل الخلاص من هذا المأزق الذي وقعت فيه كان دوما مسيطرا على أفكاري ومشاعري وقبل هذا كنت قد علمت بأن الشهيد "عمر إدريس "المدعو "سي فيصل"مسئول المنطقة قد طلب من قائد فرقتنا أن ينتقل إلى وجهة أخرى بالمنطقة بعدما بدأ يضيق ذرعا من نشاطات الميصاليين المندسين داخل صفوف الجيش ، فشككت في الأمر على أساس أن الشهيد عمر إدريس ليس بهذه السذاجة وأن في الأمر سرا وهو ما أكدته الأحداث فعلا بعد ذلك ، إذ تأكد لي أن العملية في مرحلتها الأخيرة ، عندئذ سعيت جديا إلى ربط الاتصال مع نظام الولاية الرابعة وتمكنت بفضل الله والمخلصين من ربط هذا الاتصال عن طريق مناضلين هما "بودينار حميش و إبراهيمي "وتم هذا بعد أن رتبت أموري بشكل مضبوط وجيد
حيث انسحبت خفية من فوجي الذي كان يرابط بناحية جبل حواص ، واتجهت في مطلع عام 1957 باتجاه الولاية الرابعة قصدت أولا منزل مناضل يدعى "سليمان القبايلي"ومنه إلى شخص أخر بناحية البيرين يدعى "بوزرارة سليمان" وبعد استراحة قصيرة ، عنده أوصلني هذا الأخير بأحد المحافظين السياسيين يدعى" سي العربي" وبواسطة هذا الأخير التحقت بصفوف جيش التحرير الوطني بناحية قصر البخاري ولكن عرفت فيما بعد بأن هذا الجناح تابع للولاية السادسة التي يشرف عليها العقيد علي ملاح آن ذاك ووجدت بالمركز الأخ" مصطفى بن عمار" الذي سيصير بعد الاستقلال وزير التربية الوطنية في نهاية الثمانينات ومعه "سي حسان"يوسف الخطيب مسؤول الولاية الرابعة مابين 1961 و 1962 وكانا أنذاك مسؤولين بالمنطقة، الأول يتبع لجناح الولاية السادسة والثاني مسؤول منطقة تابعة للولاية الرابعة وبعد أن أعلمتهما بوضعيتي السابقة وكذا الظروف العصيبة التي مرت بي إلى غاية فراري من صفوف فرقة الخائن "العربي القبايلي" ، تمت هيكلتي بصفوف جيش التحرير الوطني واستأنفت نشاطي المعهود ، ولما كنت على دراية وخبرة بأساليب النضال السياسي والعسكري فقد أسندت إلي مهمة قيادة فرقة لجيش التحرير الوطني قدتها بعد ذلك في عدة عمليات حربية ضد منشآت العدو وقوافله العسكرية وحققنا فيها انتصارات معتبرة ومن المهام التي قامت بها الفرقة مشاركتها الى جانب فرق كتيبة الولاية السادسة في عملية التنقل نحو جبال لعمور والقعدة بضواحي آفلو من أجل جلب الأسلحة والذخيرة لتدعيم الثورة بهذه المناطـق وإمدادها بالعتاد اللازم لمواجهة هجمات وحملات العدو التي بدأت تعرف تصعيدا خطيرا هي الأخرى مع الإشارة هنا الى أن ذهابنا إلى القعدة بآفلو قد استغرق نحو ثلاثة أشهر كاملة سجلنا خلال تلك المدة عدة عمليات ضد العدو كان من بينها معركة بناحية الناظور بضواحي تيارت اثر وشاية استشهد لنا فيها ستة مجاهدين وأسر مسئول المنطقة الرابعة ، كما قمنا في نفس الإطار بمعركة كبرى بجبل خنق عبد الرحمان بضواحي آفلو ، شاركت فيها كتيبتنا مع كتائب من المنطقة الثامنة بحضور قائدها " بودغن بن علي " (الضابط لطفي ) ودامت المعركة يومين كاملين.ألحقنا خلالها خسائر معتبرة في صفوف العدو كما فقدنا فيها أكثرمن سبعين مجاهدا .