لا أظنُّه جُزافًا أن يكون الاتفاق بين كلمة "الحياء" و"الحياة" في جميع الحروف إلا الحرف الأخير، وكذلك أن يكون الحرف الأخير تاء التأنيث، فلا أظنُّه إلا دليلاً على عُمق العلاقة بين الحياء وحياة الأُنثى، قد يكون تنطُّعًا وتحميل الكلمات ما لا تحتمل، لكننا متفقون قبل ذلك على أنَّ العلاقة بين الحياء والمرأة علاقة انتماءٍ ووجود.
الحياء بالنسبة للمرأة أبْهَى زينتها، وأنصع ألوانها، وأجْمل مواصفاتها، وأنْقَى معانيها، فهي بالحياء تعيش معزَّزة مكرَّمة، مُصانة الجانب، مرفوعة الرأس، محفوظة المكانة، تحتمي بحيائها من ألْسِنة السُّفهاء، وأعيُن السُّوقَة، وقلوب الذئاب؛ إذ يكون صيدُهم السمين مَن قلَّ حياؤها في الغالب.
تعيش المرأة بحيائها، فتحفظ نفسها وعِرضها، وكلما حصَل نقْصٌ في حياء المرأة، كان ذلك النقص سببًا في تعرُّضها لِمَا يجرحها ويُعرِّضها للإهانة - وإنْ لَم تشعر أو تعترف.
والواقع مليء بالأمثلة، ممن تعرَّضنَ للمُضايقات بسبب شعور الطرَف المؤذِي بفُقدان المرأة لجزءٍ من حيائها، فهو يرى فيمَن تضع عَباءة الكتف مثلاً أنها أسهلُ في التعامل وألْيَنُ ممن تضع عباءة الرأْس، ويُمكن أن يجد طريقًا إليها، كما أنه يعتبر كاشفة الوجْه فريسةً جاهزة، وأمَّا التي تختلط وتتحدَّث مع الرجال، فهو يرى لنفسه نصيبًا فيها، ومن حقِّه أن يؤذِيَها؛ لأنها عرَّضت نفسها لذلك، "حقيقة مؤلِمة، لكنَّها حاصلة".
والحياء خُلق رفيع، سامٍ، شفَّاف، عظيم، يدلُّ على نفسٍ عظيمة، وعقل راجحٍ، وفضيلة متأصِّلة؛ ولذا فتنازل المرأة عنه والتخلِّي عن التخلُّق به، نوع من إهانة النفس، ودليل على دَناءَتها.
والسقوط في جريمة التنازُل عن الحياء يبدأ تدريجيًّا بما لا تشعر به المرأة، ولكنها إذا فتحَت بابه يصعُب عليها إغلاقُه، إلاَّ أن يحفظَها خيرُ حافظٍ، وهو أرحم الراحمين - سبحانه - ويوفقها ويُعينها، ثم تكون صاحبة قرارٍ ونفْسٍ أبيَّة.
تدخل بعضُهنَّ ميدان التنازُل مُبررة بحججٍ تظنُّها مُقنعة وهي واهيَة، ومن ذلك: الحاجة أو التعرُّف، أو شَغْل الوقت، أو ركوب موجةٍ مع البيئة المحيطة، أو التدليل على التحضُّر، أو إثبات الثقة بالنفس، وكثير منها حقيقتها الهوى، وتبدأ بخُطوة على حذرٍ وحيطة، وما هي إلا خُطوات ورُبَّما كلمات، وإذا بها تستهين بالأمر، وتستلذُّ بالحال، وتتوسَّع في التنازل، حتى ما يبقى من حيائها ما يُعينها على العودة؛ وذلك لأنَّ بحر التنازل لا ساحلَ له، وخُطوة تجرُّ أُختها، ولا مُغيث إلاَّ أن يشاء الله؛ لذا يُصبح اللوم على الحياء واللمز بالانطواء وسامَ شرفٍ في زمن انْقَلَبت فيه المفاهيم، وانعكَست التصورات.
تقبل التنازلَ مثلاً عن شكْل جِلبابها وحَجمه، ثم عن جُزءٍ منه، ثم عن إضافة الألوان والتطريزات إليه وهكذا، في جانب آخرَ مثلاً تقبل الحديث مع الأجانب دون حاجة، وتَستطرد بلا مُبرر، وتبحث عن دواعٍ - ولو واهِيَة - للحديث معهم، وفي كلِّ ذلك يحصل نوعُ خضوعٍ ولُيونة تزيد بزيادة فرصة الحديث، كلُّ هذا وغيره دليلُ فقدان أو نُقصان مادة الحياء، والتي هي مادة الحياة.
مَثَلُ الفتاة ضعيفة أو معدومة الحياء، كمثل شجرة ضخمة يَبست عروقُها وجذورُها، فلا تمدُّها بغذاءٍ ولا ماء، والناس يرونها واقفة أماهم، لكنَّها بلا رُوح، بلا حياة، ويُبقيها واقفة رُبَّما ضخامة جسمها، أو ما يربطها بالأرض مِن جذعٍ، منتظرة موعدَ سقوطها المفاجئ، ورُبَّما المريع، أمَّا موْتُها فقد حصَل.
إنَّ النظرة القاسية للمرأة التي دون حياء من المجتمع، سببُها الرئيس هو تلك المرأة التي لَم تحترم خصوصيَّاتها، وأهانتْ نفسها:
فَمَنْ لَمْ يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَمْ يُكَرَّمِ
حياءُ المرأة مَهْمَا كان سِنُّها وأين كان موقعها، يزيد من قيمتها، ويرفع قَدْرها، وتستطيع بحيائها أن تصلَ إلى قلوب تَعجز عنها كثيرٌ ممن ضَحَّيْنَ بحيائهنَّ؛ سعْيًا للوصول إلى تلك القلوب.
أُختاه، أيتها الجوهرة، حياؤك لا يمنعك من العلم النافع، ولا من القيام بمصالحك، بل على العكس يزيدك وقارًا واحترامًا، وبهما تحصلين على تسهيلات عجيبة في حياتك؛ لأنه ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].
وما هي إلاَّ تلبيسات لا تَنطوي على العاقلات، تلك التي تدعو المرأة إلى التنازُل عن حيائها؛ لتعيش حياة السُّعداء، وحقيقتها حياة التُّعساء!
أخيرًا:
كلُّ مَن حولك ينظرون فيك إلى حيائك، وتَكبرين في أعينهم كلما رأوا الحياء فيك كبيرًا، وكلُّ دعوى - مَهْمَا كان بَريقُها ووَهجُها - تدعوك إلى ما لا يتوافق مع الحياء، فهي خدعة، خدعة، خدعة، ونهايتها مُؤْسفة.
حَفِظكِ الله ووقاكِ والمسلمين شرَّ كلِّ ذي شرٍّ.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/31959/#ixzz1gv47Ta8N