الحتمية و اللاحتمية
الاستاذ:حاج عزام 3 لغات+3 علوم تجريبية
إذا كان الاستقراءالعلمي يهدف إلى الكشف عن الظواهر ومعرفة أسبابها القريبة وصياغتها في شكل قوانينعامة فإن الاستقراء العلمي من جهة ثانية ينتقل فيه العالم من بعض الظواهر إلىالقوانين العامة وضمانة هذا الانتقال هو مبدأ الحتمية الذي ينص على أنه متى توفرتنفس الأسباب أدت إلى نفس النتائج بشكل حتمي وضروري تبعا لنظام الكون الثابت غير أنتقدم علم الفيزياء واقتحام عالم الذرة والنتائج المتوصل إليها جعل الكثير من فلاسفةالعلم يرفضون هذا المبدأ والسؤال إلى يطرح نفسه هل مبدأ الحتمية ضروري فعلا فيعلم الفيزياء أم أنه ليس ضروريا بل يمكن تعويضه بمبادئ أخرى؟.
الموقف الأول: انصار الحتمية
يرى علماء ( الفيزياء الحديثة) وفلاسفة القرن التاسع عشر " كلود برنار ، نيوتن،دبروغلي، بوانكاريه، لابلاس ، غوبلو " أن الحتمية مبدأ مطلق، فجميع ظواهر الكون سواء المادية منها أو البيولوجية تخضع لمبدأ إمكانية التنبؤ بها.
يرى كلود برنارد أن مبدأ الحتمية مبدأ مطلق وصالح للاستعمال في جميع العلوم التجريبية بدءا من الفيزياء ووصولا إلى البيولوجيا ومن وجهة نظره فإن هذا المبدأ هو الذي أوصلنا إلى أكثر النتائج أهمية على الإطلاق ويشير كلود برنارد إلى أهمية هذا المبدأ وضرورته لتقدم العلم بقوله : " إن الحتمية هي مطلقة وكاملة فهي تنطبق على الأجسام الحية كما تنطبق على الأجسام الجامدة وهذا المبدأ الحتمي هو ضروري جدا للعلم ولا يمكن للعالم أن يشك فيه هذا يعني أن العلم التجريبي يجب أن يطرد كل معطى يناقض هذا المبدأ".
وهذا ما يؤكده إسحاق نيوتن ذلك أن مبدأ الحتمية يلعب دورا بارزا في بناء الميكانيكا الكلاسيكية للسير إسحاق نيوتن الذي كان أحد العلماء البارزين الذي يؤمنون بمطلقية الحتمية ، ففي قانونه الأول المعروف بمبدأ العطالة إشارة واضحة إلى مبدأ الحتمية فهو ينص على أن" الجسم يظل ساكنا أو متحركا بحركة مستقيمة منتظمة ما لم تتدخل أي قوة لتغيير حالته الحركية"،و وكذلك قانونه الثالث الذي ينص على أن:" لكل فعل رد فعل مساو له في الشدة ومعاكس له في الاتجاه" فوجود الفعل حسب نيوتن يحتم وجود رد فعل في حالة السكون طبعا . ووجود كتلة يحتم وجود جاذبية ، ووجود سرعة ابتدائية لجسم يحتم حركته الأبدية في غياب قوى معيقة للحركة ،كل ما سبق هي مبادئ أساسية في الميكانيكا التقليدية "النيوتنية".
يرى دبروغلي مثل سابقيه أن الحتمية ضرورية في المعرفة الفيزيائية بصفة عامة كما يرى أن استعمالها هو أنجع وسيلة للتنبؤ بمختلف الظواهر الفيزيائية ، يعبر دبروغلي عالم الفيزياء عن كل ذلك بقوله:" بالنسبة لعالم الفيزياء عندما نتحدث عن الحتمية في المعرفة الفيزيائية حين تكون الأحداث التي نلاحظها في الحاضر أو في المستقبل مربوطة بمعارفنا عن القوانين الطبيعية ،مما يسمح لنا أن نعرف مسبقا وبصورة دقيقة ومنضبطة أن هذه الظاهرة أو تلك ستحدث في هذا الوقت أو في أوقات لاحقة معينة"
كما اعتبر بوانكاريه الحتمية مبدأ لا يمكن الاستغناء عنه في أي تفكير علمي أو غيره فهو يشبه إلى حد كبير البديهيات إذ يقول " إن العلم حتمي و ذلك بالبداهة"وذلك إن الطبيعة تخضع لنظام ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال لأنها غير مضطرة و معقدة وبالتالي فمبدأ الحتمية هو أساس بناء أي قانون علمي ورفضه هو إلغاء للعقل وللعلم معا
كما عبر عنها لابلاس عن مبدأ الحتمية أصدق تعبير عندما قال " يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة لحالته السابقة ، وسببا في حالته التي تأتي من بعد ذلك مباشرة"
وأخيرا يذهب غوبلو إلى القول : بأن العالم متسق ، تجري حوادثه على نظام ثابت وأن نظام العالم كلي وعام فلا يشذ عنه في المكان حادث أو ظاهرة فالقانون العلمي هو إذن العلاقة الضرورية بين الظواهر الطبيعية "
النقد:
لقد بالغ أنصار الموقف الأول في قولهم بالحتمية المطلقة فعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لمبدأ الحتمية والنتائج الكبيرة المتوصل إليها عن طريقها إلا أنها قد عجزت عن تفسير الكثير من الظواهر خاصة على المستوى الميكروسكوبي في وصف حركة الأجسام ما دون الذرية وكذلك فشلها الكبير في البيولوجيا.
الموقف الثاني: خصوم الحتمية
يرى علماء ( الفيزياء المعاصرة ) و فلاسفة القرن العشرين ( ماكس بلانك ،أنشطاين، هيزنبرغ ،ادينجتون ، ديراك ) أن مبدأ الحتمية غير مطلق فهو لا يسود جميع الظواهر الطبيعية.
حيث يرى ماكس بلانك في نظرية الكوانتوم أن الذرة المشعة لا تصدر طاقتها بصفة منتظمة أو متصلةيمكن إخضاعها لمبدأ الحتمية،بل بصفة غير منتظمة وفي شكل صدمات و عليه فمبدأ الحتمية لا يصدق إلا على عالم الأجسام الكبرى و لا يصدق على عالم الأجسام الصغرى "ميكروفيزياء".
وهذا مايؤكده كل من ادينجتون و ديراك فلقد أدت الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء و الكيمياء على الأجسام الدقيقة ، الأجسام الميكروفيزيائية إلى نتائج غيرت الاعتقاد تغييرا جذريا.
و ظهر ما يسمى باللاحتمية أو حساب الاحتمال ما أدى إلى ظهور أزمة الفيزياء المعاصرة و المقصود بهذه الأزمة ، أن العلماء الذين درسوا مجال العالم الأصغر أي الظواهر المتناهية في الصغر ، توصلوا إلى أن هذه الظواهر تخضع لللاحتمية وليس للحتمية و ذلك أن الدفاع عن مبدأ الحتمية بات مستحيلا ، وكلاهما يرى أن العالم المتناهي في الصغر عالم الميكروفيزياء خاضع لمبدأ الإمكان و الحرية و الاختيار . ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر ونفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر الماكروفيزياء مثل الزلازل.
إذا هذه الحقائق غيرت المفهوم التوليدي حيث أصبح العلماء الفيزيائيون يتكلمون بلغة الاحتمال و عندئذ أصبحت الحتمية فرضية علمية ، ولم تعد مبدأ علميا مطلقا يفسر جميع الظواهر
وهذا ما يذهب إليه هيزنرغ الذي كان سندا قويا لبمدا اللاحتمية في الفيزياء الحديثة حيث يرى أن قوانين الميكانيك الكلاسيكية المطبّقة على العالم الأكبر (عالم المركبات) لا تنطبق على العالم الأصغر (عالم اللامتناهي في الصغر). وهذا ما أكّده عندما استحال عليه التحقق على وجه الدقة من وضع الجسيم وسرعته في آن واحد. وفي هذا مخالفة تامة لما كانت تفترضه الفيزياء التقليدية،وللتعبير عن هذا اللاتحديد ابتدع “هيزنبرغ” علاقة الارتياب " عدم التحديد" فإذا كانت الفيزياء الكلاسيكية تقوم على أساس أن الكون والظواهر الطبيعية تخضع بداهة لحتمية دقيقة فإن الفيزياء الحديثة (الميكروفيزياء) لا تسمح لنا بالقول بحتمية دقيقة تتحكم بالإلكترون وعالم الذرة. لذلك فإن التفسير العلمي المعاصر يستبدل الحتمية بالاحتمال والتقدير التقريبي وأحيانًا بالإحصاء، إذ ليس من دقة يقينية تعبّر عن موقع وسرعة الإلكترون، لأننا بمقدار ما نقترب من تحديد موقع الإلكترون نبتعد عن تحديد سرعته، والعكس صحيح.
وقد تعززت الفيزياء اللاحتمية بظهور الفيزياء النسبية على يد أنشطاين بداية من سنة 1905 بعدما نشر نظريته النسبية الخاصة التي أرعدت أوصال العلماء في جميع أنحاء العالم ، وأكدت أنه لا وجود للمطلق في العلم فكل شيء نسبي يحتمل الخطأ والصواب ، وبذلك تبدد حلم السير إسحاق نيوتن في وصول العلم إلى الحقائق المطلقة والقياسات ذات الدقة المطلقة، واستخدام مبدأ الحتمية في تحديد اتجاه للكون وأين سيصير ، وفي الحقيقة فإن نتائج الفيزياء اللاحتمية" الاحتمالية" هي نتائج عظيمة فهي تشكل حجر الأساس للتكنولوجيا الحديثة ، فجهاز الإعلام الآلي يرتكز على الاحتمالات في كل معالجاته للبيانات وجميع الأدوات التكنولوجية الحديثة عالية التقنية.
النقد:
لقد بالغ أنصار الموقف الثاني في رفضهم للحتمية ذلك و بالرغم من نجاح ثورة الفيزياء اللاحتمية إلا أن مشكلتها الكبرى هي في غياب الدقة التي بلغتها الحتمية فجميع نتائجها هي نتائج تقريبية ، والغياب الجزئي للدقة يعود إلى اعتماد اللاحتمية على تحديد بعض الشروط الابتدائية فقط ، فماذا لو توفرت كل الشروط لظاهرة معينة ؟ لا شك أن تطبيق الحتمية سيكون أفضل وأكثر دقة ولا حاجة للاحتمية بعدها ، عند هذه النقطة تتوقف اللاحتمية . والمشكلة الحقيقية ليست في الحتمية بل في عقولنا القاصرة على معالجة البيانات الضخمة وترتيبها وعدم قدرتنا على الاستنتاج بسهولة
التركيب:
ذهب بعض العلماء أصحاب الرأي المعتدل على أن مبدأ الحتمية نسبي و يبقى قاعدة أساسية للعلم ، فقد طبق الاحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر واستخرجوا قوانين حتمية في مجال الذرة و الوراثة ، ولقد ذهب لانجفان إلى القول " و إنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي".
وحسب رأيي الشخصي فإن القول بمدأ الحتمية كمبدأ مطلق شيء مستحيل خصوصا مع التطور الكبير الذي وصل إليه العلم خصوصا في مجال الفيزياء الذرية ، و رفض هذا المبدأ كذلك شيء مستحيل لأن هذا إنكار للدور الكبير الذي لعبته و مازالت تلعبه الحتمية في تطور العلم.
الخاتمة:
ومنه يمكن القول أن كل من الحتمية المطلقة والحتمية النسبية يهدفان إلى تحقيق نتائج علمية كما أن المبدأين يمثلان روح الثورة العلمية المعاصرة ، كما يتناسب هذا مع الفطرة الإنسانية التي تتطلع إلى المزيد من المعرفة ، وواضح أن مبدأ الحتمية المطلق يقودنا على الصرامة وغلق الباب الشك و التأويل لأن هذه العناصر مضرة للعلم ، وفي الجهة المقابلة نجد مبدأ الحتمية النسبي يحث على الحذر و الابتعاد عن الثقة المفرطة في ثباتها ، لكن من جهة المبدأ العام فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية فباشلار مثلا يعتبر بأن مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية ، وفي هذا الصدد نرى بضرورة بقاء مبدأ الحتمية المطلق قائم في العقلية العلمية حتى وإن كانت بعض النتائج المتحصل عليها أحيانا تخضع لمبدأ حساب الاحتمالات .