كما في نهاية كل حصة مسائية أخيرة من البرنامج الزمن ي، تتغلغل
الوشوشة وسط الطلاب يسأل أحدهم الآخر عن أماكن عقارب الساعة ،
مذكرين بذلك بعضهم البعض عن وجوب الاستعداد للسباق اليومي مع
الزمن الذي تنطلق رصاصة الإعلان عن بدايته لحظة نهاية الحصة تماما.
عندما كان الأستاذ يلقي آخر كلمات الدرس في الدقيقات الأخيرة من
وقت تلك الحصة، والتي عادة ما يفضل الأساتذة أن تكون للإرشاد
والنصح، قمت بجمع لوازم الدرس كالمطبوعة والمسطرة والأقلام من
فوق الطاولة، الموجودة بإحدى قاعات الطابق الثالث، ووضعت حقيبتي
عليها ثم رجعت بالكرسي إلى الوراء قلي لا.هاهو ذا الأستاذ يعلن عن
نهاية الحصة و يسمح لنا بالمغادرة وكأنه ينفخ في صفارة الانطلاق،
وقفت على الفور وحملت حقيبتي مسرعة للخروج من القاعة، ولم أنتبه
حتى وجدت نفسي قد خرجت من الكلية تماما فلقد نزلت ا لسلم تارة مشيا
وتارة أخرى قفزا، في بادئ الأمر كنت أمشي لا مسرعة ولا مبطئة
لكنني وجدت الجميع يتجاوزني فأحسست نفسي كسيارة عتيقة زج بها
في سباق الرالي لُتنافس سيارات " الفورميلا" ، لم يمضي كثيرا من
الوقت حتى أصبحت أهرول في ذلك الطريق الطويل بين كلية علوم
المهندس وكلية الحقوق، ألقيت نظرة على الساعة فإذا به لم يبق على
وقت انطلاق الحافلات سوى دقائق معدودة، فأخذت أركض كالغزال
وسط البرية الرحبة وأولئك الطلاب ينظرون إلي بنظرات مختلفة، فهناك
من يتساءل عما يدفعني للجري؟ وهناك من انبهر لشجاعتي وجرأتي
تلك، أما آخرون فقد أخذوا بوعظي بنظراتهم قائلين: " أنت طالبة
جامعية ولا يجدر بك الجري في الجامعة ولا في أي مكان آخر ".
لكنني لا أعتبر نفسي شجاعة أو جريئة لمجرد ممارستيلحريتي، كما
أنني لست مجبرة بتفسير تصرفاتي للآخرين أو مجبرة بالخضوع لقوانين
ابتدعها أشخاص لا يهمهم في الحياة سوى الحفاظ على مظهرهم
الخارجي. وصلت إلى موقف الحافلات المكتظ بالطلبة والطالبات، أخذت
أمشي بخطوات متباعدة مستعينة في عملية الشهيق بأنفي وفي عملية
الزفير بفمي، فهذا ما كنا نفعله أيام الثانوية بعد كل تدريب رياضي،
اتجهت نحو صف حافلات " الزعاطشة " ووقفت خ لف عدد لا بأس به
من الطلاب المزدحمين حول باب ذو شقين لا يفتح منه سوى شق
واحد، نظرت عبر زجاج الباب فرأيت السائق وهو يمسك سيجا رة
مشتعلة بين إصبعيه و يتبادل أطراف الحديث مع فتاة متبرجة تضع
نظارة شمسية كبيرة ولا يبالي إن كانت هناك شمس حارقة أشعتها
تشوي أجساد الكثيرين في الخار ج. عندما حان وقت الانطلاق هيأ
السائق محرك الحافلة فتهيأ الجميع بدورهم للركوب، أخذ الطلاب في سد
الفراغات الموجودة بينهم حرصا منهم على عدم حصول أي تجاوز قد
يؤدي إلى نزع الأدوار، راغبين جميعا في الحصول على مقعد للجلوس
لتدلي أرجلهم المتورمة من عليه جراء ذلك الوقوف المطول، فتح السائق
الباب بكبسة زر، فتدفق فوج الطلاب دكا دكا، في خضم ذلك الركوب
سمعت طالبة تقو ل:" مهلا..مهلا أنتم تدوسون على تنورتي" وسمعت
أخرى تتذمر :" هذا ما أكره في الجامع ة..موقف الحافلا ت"
وها هو أخر يرد د:" ما كل هذا الازدحا م...؟"، نظرت من خلفي
وإذا بإحداهن تحاول انتزاع حقيبتها من بين أجساد أولائك الطلبة
المتراصين وكأنهم في الحج، حاولت المساعدة ولكن في ذلك المكان
يستحيل الرجوع إلى الخلف، لذلك تابعت الدز راجية من الله ألا يحدث
لي نفس ذلك الموقف.
الحالمة كرافسة