قبل سنتين احتفل الشيخ عبد الرحمن الجيلالي بعيد ميلاده المائة، ساعتها نشر الروائي الطاهر وطار شهادة بشأنه بعنوان''الشيخ عبد الرحمان الجيلالي·· مائة سنة وما زالت البركة''، ولم تمض سنتان على ذلك حتى رحل صاحب الشهادة ورحل بعدها الذي كتب عنه·
الخير شوار
هي سنة الرحيل إذن، رحيل الكبار، بدءا بعبد الله شريّط، مرورا بالطاهر وطار ومحمد أركون، وليس انتهاء عند الشيخ عبد الرحمن الجيلالي الذي لن نراه بعد الآن ليلة الشك عند حلول رمضان أو عيد الفطر، وهو الذي كان صوته المميز يحيل إلى برنامجه الديني الأشهر ''رأي الدين في أسئلة المستمعين''، وبرنامجه الثقافي التاريخي الآخر ''لكل سؤال جواب'' يعدها مع الأساتذة عثمان بوقطاية، أحمد مكحل ومحمد الأخضر السائحي· وقد بدأ رحلته الإذاعية تلك سنة 1940 ولم تتوقف إلا عند منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما غادر مبنى الإذاعة قسرا وهو الذي كان يؤمن تمام الإيمان بأن ''الأخلاق تبنى بالتهذيب والإحسان''، وبدأ صوت العقل يختفي شيئا فشيئا لصالح أصوات أخرى عصفت بالخصوصية الجزائرية وأتت على عشرات الآلاف من الضحايا بعد ذلك في أقل من عشر سنوات·
لقد كان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي من المثقفين الموسوعيين، وترك بصماته واضحة في 14 طبعة من ملتقيات الفكر الإسلامي، والأعمال المنشورة لسلسلة الملتقيات تلك شاهدة على مروره المؤّثر فيها، بحثا ونقاشا في مختلف المسائل الحضارية الكبرى·
وكان قبلها قد أنجز عمله المرجعي الكبير ''تاريخ الجزائر العام'' في مجلدين كبيرين وطبع بعد ذلك ثماني مرات في أربعة أجزاء وفي طبعات جديدة بخمسة أجزاء، وكان قد صدر لأول مرة في طبعة مصورة وأنيقة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وكان قد بدأ الاشتغال عليه سنوات قليلة بعد احتفال السلطات الفرنسية بالذكرى المائوية لاحتلال الجزائر، وقبل اشتغاله بذلك المرجع المهم كان قد كتب شهادته المرجعية حول صديقه وأستاذه محمد بن أبي شنب بعد وفاته مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي·
لقد كان موسوعيا بكل المعاني الكبيرة للموسوعية، خبيرا بالموسيقى الدينية والدنيوية· فقد كان الشيخ بوقندورة مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية الحضرة أو القصادين، يقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية أو ما يعرف بـ ''المديح''، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، حتى أصبح خبيرا فيها، رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابعا صوفيا تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني· وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي اختار أن يحتفل بالذكرى الألف لتأسيس مدينة الجزائر بطريقته الخاصة، عندما ربط تاريخ هذه المدينة بتاريخ مدينتين أخريين، هما مليانة والمدية، فأصدر كتاب ''تاريخ المدن الثلاث''، بمساهمة الكثير من الباحثين المتخصصين، في إطار جهود وزارة الشؤون الدينية زمن الوزير الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، وأكد أن المدن الثلاثة تأسست في وقت واحد تقريبا وعلى يد بولوكين بن زيري الصنهاجي وكان في برامجه الإذاعية ومحاضراته يشدد على أن اسم المؤسس هو بولوكين (بالقاف المصرية)، لا بـ ''الغين''، وهو الخطأ الذي ما زال شائعا لحد الآن·
الراحل الكبير ولد بالجزائر العاصمة سنة 1908 وتنقل تلميذا بين الجامع الكبير وجامع سيدي رمضان ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي بالعاصمة، على يد شيوخ مشهود لهم، لعل أشهرهم عبد الحليم بن سماية الذي كان من مستقبلي الشيخ محمد عبده عند زياراته للجزائر سنة ,1903 والدكتور محمد بن أبي شنب الذي كان أستاذه وصديقه، وغيرهما كثير، أمثال الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح· كما درس على يد الشيخ الحفناوي صاحب (تعريف الخلف)، الذي كان من رجال الدين الرسميين ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا· وكان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي يقول ''أجمل ذكريات حياتي هي تلك الفترة التي قضيتها بالمدرسة الابتدائية القرآنية مع شيخي عبد الحليم بن سماية وشيخي محمد بن البشير البوزيدي''·
وحسب شهادة الراحل الطاهر وطار في الراحل عبد الرحمن الجيلالي، انه لما نصّب الأول مديرا عاما للإذاعة مطلع تسعينيات القرن الماضي، اقترح عليه إعادة برنامجه فوافق لكنه رفض أن توضع تحت تصرفه سيارة وفضل أن يذهب ماشيا إلى مقر الإذاعة، لكن البرنامج سرعان ما توقف فالزمن تغيّر، والبلاد كانت مقبلة بالفعل على ذلك الشلال من الدم·
لقد كان وطار يقول: ''صار صوت الشيخ عبد الرحمان جزءا من وجداننا، وصارت حصته، هي كل كتابنا المرجعي، الإمام مالك وسيدي خليل، وابن أبي زيد القيرواني·· لا أحد منا يشكك فيما أفتى به الشيخ، بل إن معلمي القرآن، ومن يمكن تسميتهم، بفقهاء الدشرة، وحفّاظ سيدي خليل، يعتمدونه اعتمادا مطلقا''، لكننا أصبحنا الآن مجبرين على الحديث عن الطاهر وطار وعبد الرحمن الجيلالي، وحتى على ذلك الزمن بصيغة الماضي الذي لن يعود·
وسط غياب تام للحكومة :تشييع ''مفتي الجزائر'' إلى مثواه الأخير
عبد اللطيف بلقايم
شُيع العلامة عبد الرحمان الجيلالي، عصر أمس، إلى مثواه الأخير وسط جو جنائزي مهيب، كان اللافت فيه، الغياب التام للوجوه الرسمية في الدولة التي كان عبد الرحمان الجيلالي مفتي ديارها الأول من دون منصب رسمي·
خصصت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، البارحة، الجناح الرئيس في دار الإمام، لإلقاء النظرة الأخيرة على الرجل الذي عمّر أكثر من قرن وعاش خلاله للدين والتاريخ الجزائري، حيث كانت عائلته تتلقى التعازي هناك·
وقبل ذلك تقدم الموكب الجنائزي إلى دار الإمام، سيارات الشرطة ودراجاتها النارية· ومع اقتراب صلاة الجمعة كان الناس يدخلون حشودا حشودا ليلقوا نظرة أخيرة على وجهه المكشوفو، وناب عن وزير الشؤون الدينية المتواجد في الحج، أمينه العام حمي علي، كما كان المرافق الشخصي للفقيد وصديق عمره منذ 65 سنة، الهاشمي العربي يتلقى التعازي نيابة عن زوجة العلامة وابنته وابنه·
واتفق أهل الفقيد ووزارة الشؤون الدينية على أن يتم الدفن بعد صلاة العصر لإتاحة الفرصة أمام جموع المعزين لتوديع الرجل الذي علق بأذهان الجزائريين· وقال الأمين العام لوزارة الشؤون الدينية في شهادته حول الرجل إن ''عبد الرحمان الجيلالي كان رجلا منضبطا بشكل غريب، يأتي إلى مكتبه بالوزارة على رأس ساعة الدخول ويغادرها على رأس ساعة الخروج وذلك طوال حياته التي عرفته فيها بالوزارة''· ويقول مدير الشؤون الدينية والأوقاف للعاصمة إن ''رجلا من هذا الوزن لا يسعنا إلا أن نبكيه ونعزي أنفسنا في هذا المصاب''·
بعد مغادرة الموكب الجنائزي مسجد المحمدية عصرا نحو مقبرة سيدي امحمد، تناقل المشيعون ردود أفعال بعضهم البعض، المنددة بعدم حضور رجال الدولة التعزية والجنازة، إذ هناك من اعتبرها نكرانا صريحا لعقود من العطاء الديني والتاريخي للبلاد، إذ كان من أبرز الذين شيعوه ـ علاوة على أئمة العاصمة وإطارات الشؤون الدينية وبعض الوجوه الفنية والثورية والمجتمع المدني ـ الوزيران السابقان للشؤون الدينية والثقافة على التوالي، الساسي لعموري ولمين بشيشي، حضر الجنازة الجنرال المتقاعد رشيد بن يلس·
قالوا عن العلامة
الدكتور محمد الهادي حسني:
فقدت الجزائر شخصية غير عادية لقيمتها العلمية وقيمة عملها أيضا، فعبد الرحمان الجيلالي يعتبر ذاكرة حقيقية للجزائريين طيلة نصف قرن بل أكثر، يكفي عبد الرحمان الجيلالي أنه كان تلميذا لعلامتين أيضا هما الشيخان عبد الحليم بن سماية وبلقاسم الحفناوي· إن ما أصابنا فيه لأمر جلل نسأل الله أن يرحمه·
عمار طالبي (رئيس المجلس العلمي للشؤون الدينية بالعاصمة):
الشيخ يمثل جيلا كاملا وشاهدا على عصر تاريخ الجزائر الحديث، انتفعت الجزائر برمتها من فتاويه وهو أحد المحدثين والفقهاء الذين يصعب مجاراتهم علميا، وأول من ألف في التاريخ الجزائري بعد توفيق المدني ومبارك الميلي ويُعتبر ممن عاصروا سلاسل من الأحداث التاريخية التي نفقد فيها اليوم كثيرا من الحقائق العلمية، فنحن نحزن لفقد هذه الشخصية المتفردة دينيا ولغويا·
الهاشمي العربي (صديق الفقيد وتلميذه):
عرفته منذ 65 سنة وبالضبط في 26 جوان 1946 تاريخ دخولي إلى مدرسة التربية والتعليم الليلية التي كان المرحوم يلقي فيها الدروس ويديرها أيضا، إذ تتلمذت على يده· وكان، لمن لا يعرفه، من بين المؤسسين لحزب الشعب الجزائري عن طريق تأسيسه لبعثة الحزب الخاصة إلى جامع الزيتونة· عبد الرحمان الجيلالي كان أيضا من الذين عملوا على التراث العربي الأندلسي وهو من ركائز المالكية مع الشيخ الطاهر آيت علجت ومحمد شارف·
لمين بشيشي (وزير الثقافة الأسبق)
لقد فقدنا اليوم هرما من أهرام البلاد التي تبقى دوما مصدر فخر واعتزاز لكافة الجزائريين، لأن عبد الرحمان الجيلالي رحل بعد أن أتمّ واجبه تجاه دينه وبلاده على أكمل وجه ونحن نشهد له بذلك، وما شهادة الدكتوراه الفخرية التي نالها باسم الدولة الجزائرية لعرفان بجميل الرجل العلمي والثقافي والفني وشاءت الأقدار أن يرحل إلى جانب أحد أسماء الجزائر الخالدة التي سنبقى نتذكرها هي الأخرى السيدة كلثوم·
عبد الرزاق مقري (نائب رئيس حركة مجتمع السلم):
أعتقد أنه لا يوجد في الجزائر من هو أجدر بصفة الشخصية الموسوعية أكثر في جزائر الحاضر، رجل له من العلم والشرعية والاسهام والتفسير لأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بأسانيدها الواصلة ما يجعله فقيها غير منقوص، لذلك ذاعت فتاويه وشاعت عبر البلاد على أجيال متعاقبة من الجزائريين فحُفظ في ذاكرتها، وكان ذا فضل كبير على تلاميذ الوطنية من أمثال الشهيد ديدوش مراد، فهو رجل جدير بالتبجيل والاحترام حيا وميتا·
جمعها: عبد اللطيف بلقايم