من بين علامات القصور والتقصير عند مثقفينا المتشبثين بكراسي المقاهي في الميدان في المدن الشمالية الكبرى عدم اطلاعهم على واقع الأرياف والجزء الجنوبي من القطر الجزائري الشاسع مثل الأسطورة. وأكثر من ذلك أن هؤلاء يمارسون الصمت تجاه التخلف وشتى أشكال الحرمان الاجتماعي والثقافي والتنظيمي والاقتصادي في هذه الأجزاء من البلاد.
ومما يؤسف له أن هؤلاء المثقفين المنحدرين من الأرياف الشمالية والوسطى ومن المنطقة الجنوبية قد غسلوا أيديهم تماما من معاناة المواطنين الذين ينتمون إليهم، وكانوا جزءا من النسيج العائلي لسكان الفضاءات الجغرافية المذكورة وذلك قبل انتقالهم للإقامة خارجها، وخاصة إلى العاصمة والمدن الكبرى كوهران، وقسنطينة، وسطيف، وعنابة وغيرها. لا أقصد هنا الكتاب والإعلاميين فقط، وإنما كل أولئك الذين يصنفون في خانة المثقفين من سياسيين، وإداريين متنفذين في مؤسسات الدولة أيضا.
أريد هنا أن ألقي بعض الأضواء على المشاهد التي رأيتها بعيني في الأسبوع الماضي، وذلك خلال رحلتي إلى محافظة ورقلة التي تعتبر عاصمة الجنوب الجزائري. تبعد ورقلة عن العاصمة الجزائرية 800 كم وتبلغ مساحتها 211980 كم2 أي أكبر قليل من مساحة إنكلترا وايرلندا الشمالية معا، وأكبر من نصف مساحة ألمانيا الفيدرالية التي يقطنها 80 مليون نسمة.
من الناحية الاقتصادية فإن ولاية ورقلة تعد من أغنى المناطق في العالم بأسره لتواجد جزء مهم من النفط الجزائري فيها. إلى جانب ذلك فهي غنية بثروات التمور، والزراعة الصحراوية، وتتوفر على إمكانيات سياحية هائلة لم يخطط لها، ولا تزال غير مستغلة إلى يومنا هذا. رغم هذه الثروات الكبرى التي تقدر بملايين الدولارات فإن هذه الولاية تعيش في ظل كابوس التخلف والفوضى، فضلا عن البطالة المستشرية، وكأن حقول النفط العملاقة بحاسي مسعود التي هي جزء منها أصبحت نقمة عليها.
في طريقي باتجاه ورقلة مررت بدائرة توقرت، وهي مدينة صغيرة كأنها ولدت فورا من العصور الطينية، أي قبل العصر الحجري. تتميز هذه الدائرة بمعمارها الفوضوي، وطرقاتها المفككة. عندما اقتربت من مدخل مدينة ورقلة أشار سائق السيارة الذي نقلني إليها من وادي سوف إلى الأضواء الكهربائية التي تغطي المدينة كلها ليلا. وهنا قلت له بأن المثل القديم يقول: "لا تخطب المرأة ليلا، ولا تحكم على المدن بأضوائها".
في اليوم الثاني من وصولي إلى ورقلة قدمت محاضرة بجامعتها حول نظرية الأدب، وبعد ذلك بدأت أطوف في الشوارع؛ وفجأة سمعت شخصا يناديني وهو في سيارته وسلم عليّ ثم دعاني إلى فنجان شاي. ونحن نتبادل أطراف الحديث أعلمني أنه يعرفني من كتاباتي، وخلال حضوره لندوة ثقافية أقمتها حول الهوية والتراث منذ عام تقريبا بمدينة وادي سوف. أثناء تناول الشاي أخبرني أنه يعمل محاميا، وهنا أبديت له بعض ملاحظاتي حول فوضى المعمار في مدينة ورقلة، فضلا عن ندرة النظافة في شوارعها وفي مقاهيها ومطاعمها التي تصفعها الرمال وأكداس النفايات والغبار.
سألت هذا المحامي عن نسبة البطالة في الولاية فقال لي بأنها عالية، وتأكدت من ذلك من أفواج الشبان المنتشرين في الشوارع طول النهار، ومن ملابسهم الرثة غالبا. وفجأة دعاني لنتجول على متن سيارته لنتعرف على أكثر المناطق حرمانا في ولاية النفط الذي يصدّر إلى مختلف بقاع العالم. بدأنا أولا في زيارة حي القصر الذي ليس بقصر على الإطلاق، وإنما هو عبارة عن مئات المنازل الطينية القديمة الماثلة للسقوط والهرمة التي تسكنها مئات العائلات المحرومة. في هذا الحي الكبير جدا يلتقي المرء وجها لوجه بالبيئة البدائية لحد الحزن والألم. فالطرق التي تتخلل الحي غير معبدة، بل مغبرة، وتتحول إلى كومات من الوحل في فصل الشتاء، وهكذا رأيت بعيني سكانه يتحركون وكأنهم يمشون على الشوك. من مظهر هؤلاء يتأكد المرء أنهم فقراء ومهمشون.
نظرت في وجه مرافقي المحامي وطلبت منه أن نغادر بسرعة لأنني مفجوع ولا أطيق أبدا أن أتحمل ثقل هذا البؤس، ولكنه أصر على أن يطلعني على أحياء أخرى تقاسم حي القصر التخلف والفقر. وهنا سألته عن منطقة حاسي مسعود المحاذية التي يمتلئ بطنها بالبترول، وأوضح لي بأنها لا تختلف في الشكل أو في المحتوى عن باقي الأحياء الطينية المغبرة التي رأيناها معا. وهكذا ودعني، ورأيته يمشي تجاه سيارته بخطى متثاقلة تجرها الأحزان.