1- الفكر الاقتصادي في الحضارات القديمة و في العصور الوسطى:
ظل الفكر الاقتصادي و حتى بداية العصر الحديث مخــتلطا بالفكــر الديني و الفلسفي و الأخلاقي، و كانت ميزة الفكر الإنساني حول الظواهر الاجتماعية مرتبطا بأفكار غيبية، و جملة من الانطباعات البسيطة التي حاولت أن تقدم وصفا للواقع الاقتصادي في كل مرحلة معينة، و لذلك يصعب القول أن بأن ثمة فكر اقتصادي علمي قد قام في هذه المرحلة( ).

أ‌) في الحضارات القديمة:
- الحضارات الشرقية:
عرفت الحضارات القديمة في الشرق ازدهارا اقتصاديا كبيرا على الصعيد العملي، ناتج عن وجود تنظيم اقتصادي و اجتماعي دقيق. فقد عرفت الحضارة المصرية القديــمة و حضــارة الــبابليين و الحضارة الصينية نوعا من الزراعة المتقدمة و المنظمة، إلى جانب هذا فقد تبلورت ملامح بسيطة لفكر اقتصادي ساد في هذه المرحلة، و من أهم هذه الأفكار نذكر ما يلي:
- ذكر بعض الأفكار حول الملكية و تنظيمها في قانون حمورابي. غير أن هذه التنظيمات قد تناولت بصفة أساسية الجانب القانوني و الديني. و لم تتعرض للجوانب الاقتصادية.
- كانت الكتابات المصرية القديمة قاصرة على تسجيل بعض الأفكار الفلسـفية و الديــنية و نظام الحكم.
- نجد ملامح لفكر اقتصادي في القانون الموسوي و العهد القديم الذي أجاز العمل بالتجارة، و حرم اقتضاء فائدة على القروض فيما بين العبرانيين و لكنه يجيزها فيما بين العبرانيين( ).

- الحضارة اليونانية:
عند الإغريق وجد الفكر الاقتصادي في أحضان الفلسفة، و في هذه المرحلة عرف الاقتصاد بأنه علم إدارة المنزل (اقتصاد عائلي)، و بالرغم من ازدهار الفلسفة و السياسة و الأخلاق لدى الإغريق، فإننا لا نجد بناءا فكريا متكاملا عن المشاكل الاقتصادية، و يرجع السبب في ذلك إلى أن الاقتصاد الإغريقي كان عبوديا قائما على أساس الرق، و كانت النظرة إلى العمل بشكل عام نظرة احتقار من طرف المفكرين. على العموم يمكن التــماس معالم فكر اقتصـادي لدى الفلاسفة اليونان:
- أفلاطون ( 427-374):
- تناول بعض المشاكل الاقتصادية في كتاباته الفلسفية و بوجه خاص في كتاب "الــجمهورية" و "القوانين"، ويرجع أفلاطون سبب نشأة الدولة إلى اعتبارات اقتصادية، فحاجات الإنسان متعددة، و لا بد من اجتماع الأفراد في جماعة سياسية حتى يمكن إشباع هذه الحاجات ( ).
- دعا أفلاطون في "الجمهورية" إلى إقامة مدينة مثالية قوامها تقسيم العمل و الاخــتصاصات و المزايا بين طبقات المجتمع، و العمل على تحقيق المساواة بين المواطنين، و قد قسم أفلاطون المجتمع إلى ثلاثة طبقات، تختص كل منها في تأدية عمل محدد حسب فكرته حول تقسيم العمل، فالحكم يجب أن يترك لطبقة الفلاسفة و الحكماء،و يدخل في طائفة الحكام أيضا النبلاء و المحاربون الذين يشكلون الطبقة الثانية، أما طبقة المحكومين فتتضمن العمال اليدويين و الزراعيين و الصناع( ).
- و تجدر الإشارة هنا أن فكرة تقسيم العمل عند أفلاطون ليس داخل العملية الإنتاجية كما دعا لذلك آدم سميث لاحقا، بل بين فئات المجتمع المثالي، لأن العملية الإنتاجية أصلا لم تكن متسعة حتى تقتضي التقسيم( ).
- و يدعوا أفلاطون إلى إلغاء الملكية الخاصة و الميراث و الأسرة بالنسبة للطبقة الحاكمة حتى تتوفر ليدهم الرغبة في الاستمرار في أداء و الحفاظ على المصلحة العامة ( مشاعية)، لأن من أسباب انحراف البشر حب الملكية الفردية و الرغبة في توريث الأولاد. بينما أكد في المقابل على أهمية الملكية الخاصة بالنسبة لطبقة الصناع و الحرفيين و المزارعين لأنهم يهدفون إلى تحقيق مصالحم الخاصة( ).
- يعتبر الرق عند أفلاطون عنصر دائم و ضروري لبقاء الإنسانية ( ).

- أرسطو ( 384-322):
- في إطار الفكر الإغريقي ينفرد أرسطو طاليس بمقدرة فائقة على التغلغل في تحليل الظواهر الاقتصادية( )، و قد ضمن أرسطو افكاره الاقتصادية في كتابه القيم " السياسات" الذي وقف فيه وقفات تحليلية عميقة لبعض المشكلات و الظواهر الاقتصادية، و لذلك يعتبر لدى البعض أول القدماء الذين وضعوا ما يمكن تسميته " ببذور نظرية اقتصادية" تقوم على تحليل الظواهر و المشكلات، بل يذهب البعض أبعد من ذلك بالقول أن الفضل يرجع لأرسطو في دفع علم الاقتصاد دفعة قوية و لأول مرة في التاريخ الإنساني، ليصبح علما مستقلا عن العلوم الفلسفية و المنطقية التي سادت في عصره ( ).
- و يرتكز التحليل الاقتصادي لأرسطو مباشرة على الحاجات و إشباعها عن طريق الحصول على الأموال، عبر ممارسة الزراعة و الصناعة و تربية المواشي و الصيد، إلى جانب التجارة. و يعتقد أرسطو أن العائلة هي الوحدة الإنتاجية التي تعمل على تحقيق اكتفاءها الذاتي( ).
- أقر أرسطو حق الملكية الخاصة منددا بما ذهب إليه أفلاطون، و بهذا يعتبر أرسطو أول من أرسى دعائم الرأسمالية، و قد استخدم أرسطو في دفاعه عن الملكية الخاصة ثلاثة براهين:
أ‌- الملكية سبب في تحقيق السعادة البشرية.
ب‌- الملكية تؤدي إلى الارتقاء و النهوض بالنفس البشرية.
ج‌- الملكية الخاصة ترتبط ارتباطا وثيقا بالحرية كأرقى مطلب تسعى إليه النفس البشرية ( ).

- و يرى أرسطو أنه من الممكن التوفيق بين المصالح الخاصة و العامة، و أن البواعث الشخصية هي من أقوى البواعث و قد تكون من أهم الأسس لتحقيق المصلحة العامة. كما رفض فكرة إلغاء الأسرة( ).
- كما ناقش أرسطو موضوع "النقود" من حيث نشأتها فهي ظهرت نتيجة عيوب المقايضة، و من حيث وظائفها باعتبارها الوسيلة الطبيعية للتبادل و مخزن للقيمة، بطريقة تحليلية تشبه الطرق الحديثة ( ).
- كما فرق أرسطو بين قيمة الاستعمال التي تعني منفعة الشيء للمستهلك، و قيمة المبادلة التي تهدف إلى تحديد معدل التبادل بين السلع بعضها ببعض. و فيما يتعلق بتحديد قيمة التبادل فقد اهتم أرسطو بتحديد فكرة الثمن العادل بالرجوع إلى اعتبارات أخلاقية، و لهذا السبب أدان أثمان الاحتكار باعتبارها غير أخلاقية و غير عادلة.
- كما تطرق أرسطو إلى موضوع الربا، فانتقده أشد الانتقاد فالنقود عنده لا تلد نقود، أي أنها غير منتجة لذاتها، و لذلك فإن الفوائد مذمومة أخلاقيا، لأن الربا أشد الطرق مجافاة للطبيعة البشرية( ).
- يتفق أرسطو مع أفلاطون حول قضية العبيد، و لا ينادي بإلغاء الرق إذ يعتبره جزء لا يتجزأ من تكوين المجتمع اليوناني القديم، بل هو نوع من الملكية الخاصة. و يضيف بأنه لا مناص من وجود فئة من الناس قضت الطبيعة عليهم منذ ميلادهم أن يكونوا خاضعين لسيطرة الآخرين( ).

- الحضارة الرومانية:
تتميز الثقافة الرومانية بالضحالة بالمفهوم الفلسفي، فقد ظلت روما تابعة لليونان من الناحية المعرفية و الفكرية باستثناء بعض الأعمال القانونية لا نجد فكرا رومانيا خالصا.
على الصعيد الاقتصادي حدثت بعض التحولات أدت إلى ظهور أوضاع جديدة أدت إلى تحول الاقتصاد العائلي إلى اقتصاد زراعي مغلق، ثم اقتصاد استعماري إمبراطوري، هذا على الصعيد العملي، أما على الصعيد الفكري فلم يصاحب ظهور مشكلات اقتصادية مثل التضخم، إسهامات و أعمال فكرية اقتصادية أو نظريات لحل المشكلات الاقتصادية، فلا نجد سوى بعض الإشارات عن الفن الإنتاجي في مجال الزراعة، و أثر تنظيم الأسواق على التضخم مع معارضة صور الاستغلال الكبير للأرض و أثره على توافر المواد الغذائية، إضافة إلى استنكار أسعار الفائدة( ).

ب) في العصور الوسطى:

- الفكر الاقتصادي الأوربي في العصور الوسطى في أوربا:
كانت المبادئ المسيحية هي المرشد الوحيد لتصرفات الأشخاص، لذلك اتسم الفكر الاقتصادي في هذه المرحلة بالطابع الديني اللاهوتي و الأخلاقي و تجرد من كل منطق علمي. و لقد لخص الفكر الاقتصادي المسيحي القديس توماس الإكويني ( 1274-1296).
و يتقارب الفكر المسيحي مع الفكر الاقتصادي القديم لأنه يحتقر الثروة و الجاه، و لكن دوافعه ليست دوافع أخلاقية أو فلسفية فحسب كما رأينا عند الإغريق و لكنها تنبعث من معتقدات دينية عميقة( )، ذلك أن المال مثلا مطلب دنيوي و قد يصاحب طلبه الجشع و البخل و غيرها من الصفات الذميمة التي تسبب البغضاء بين الناس.
يمكن تلخيص أفكار الإكويني الاقتصادية في النقاط التالية:
- احتلت فكرة العدل التي أشار إليها أرسطو مكانا رئيسيا من التفكير لدى توماس الإكويني، بحيث أشار إلى قضية "السعر العادل" و هو الذي يتيح للبائع الاحتفاظ بمستوى معاشي محترم دون أن يستغل المشتري، بمعنى أنه يعادل السعر الذي لا يضر العارض و الطالب في نفس الوقت، كما أشار كذلك في هذا السياق كذلك إلى " الأجر العادل" و هو الأجر الذي يمكن العامل من إعالة عائلته وفق ما تعارف عليه في المجتمع( ).
- أما بالنسبة لموقفه من الملكية، فيتفق الإكويني مع أرسطو في اعتبار الملكية الخاصة حق مشروع، تتفق مع القانون الطبيعي و لا تخالفه( )، و لكنها تبقى في خدمة الصالح العام.
- أما موقفه من سعر الفائدة، فهو استمرار الرفض على نفس الأسس و الحجج التي قدمها أرسطو.

- الفكر الاقتصادي عند العرب و المسلمين خلال العصور الوسطى ( ابن خلدون 1332-1406 م ):
إذا كانت العصور الوسطى هي عصور ظلمات هي عصور الظلمات بالنسبة لأوربا، فقد كانت متزامنة مع ازدهار حضاري عرفته الدول الإسلامية، فانتقل مركز الإشعاع الحضاري إلى الدولة الإسلامية، و ازدهرت الفلسفة و العلوم، و التاريخ حافل بأسماء كبيرة نبغت في شتى العلوم، مثل الفارابي و جابر بن حيان، و ابن رشد و غيرهم، إلا أنه لا شك في أن ابن خلدون كان الأبرز و الأكثر إبداعا في مجال العلوم الاجتماعية بما فيها الاقتصاد. كما نفهمه في عصرنا الحديث، لأنه قدم لنا نموذجا فكريا للدراسة التاريخية على أساس تداخل الظواهر الاقتصادية و السوسيولوجية و السياسية.
ضمن ابن خلدون أفكاره الاقتصادية في كتابه القيم "العبر و ديوان المبتدأ و الخبر"، و لكن مقدمة هذا الكتاب هي التي احتفظت بحجة علمية، و هي المعروفة الآن بكــتاب " مقدمة ابن خلدون"، و هي أول بحث علمي في كيفية دراسة التاريخ على أسس علمية و تحليلية. و قد أراد ابن خلدون من خلال هذه المقدمة أن يبين كيفية دراسة التاريخ و العوامل التي تؤدي إلى سير الأحداث و العلاقة بين مختلف الوقائع و الأحداث( )، ففي تعريفه للتاريخ يقول أن فن التاريخ و إن كان في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام و الدول، و السوابق من القرون الأول...،إلا أنه في باطنه نظر و تحقيق، و تعليل للكائنات و مبادئها دقيق، و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق( ).
كما ترجع قيمة ابن خلدون كذلك كونه مؤسس علم الاجتماع، فهو أول مفكر جعل من المجتمع الإنساني كما يفعل عالم الاجتماع المعاصر موضوع دراسة علمية، يهدف إلى تفسيره، و في إطار دراسته هذه للمجتمع في حركته التاريخية يهتم ابن خلدون بالظواهر الاقتصادية، و هي تكون نشاطا يعده أساس العمران، إذ أن "العيش الذي هو الحياة، لا يحصل إلا بهذا"، و يخصص لهذا النشاط الباب الخامس من كتابه الأول" في المعاش و وجوبه من الكسب و الصنائع و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه مسائل"، إذا فابن خلدون تطرق للقضايا و المسائل الاقتصادية في حدود ما تقتضيه دراسته الاجتماعية و التاريخية( )، و يمكن تلخيص أهم أفكاره الاقتصادية في النقاط التالية:
- تداخل الظواهر الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية:
هو نقطة البدء عند ابن خلدون هي أن المجتمع ظاهرة طبيعية أدى إليها عمران التكافل الاقتصادي، و تعتبر القاعدة الاقتصادية أساس وضعية المجتمعات، و هي في نفس الوقت جزأ لا يتجزأ من كيان اجتماعي يؤثر فيها بدوره، و يعتبر الواقع الحكم السياسي النتيجة الحتمــية لهذا التداخل، و هو واقع له كذلك تأثيره على الكيان الاجتماعي و على العلاقات الاقتصادية( ).
- أهمية العمل و تقسيم العمل عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أن ثروة الأمم تكمن في ما تنتجه الصنائع و الحرف، و تتمثل طرق اكتساب هذه المنتجات أو الأموال، أو مظاهر النشاط الاقتصادي، أو ما يسميه هو "بوجوه المعاش"، في الصيد بأنواعه و تربية الحيوانات و الفلاحة و الصناعة( )، غير أنه يولي أهمية كبيرة للصناعة في دراسته، بحيث تناول في كتابه حول المعاش العديد من القضايا العامة للصناعة من ناحية و خصائص بعض الصناعات بذواتها من ناحية أخرى.
و يقوم هذا النشاط الاقتصادي على فكرة تقسيم العمل، التي احتلت مكانا بارزا في أفكاره الاقتصادية: " إن الفرد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجات معاشه، إنما البشر متعاونون معا لذلك"( )، إشارة منه إلى أهمية تقسيم العمل نظرا لكثرة الأعمال المتداولة في العمران: " اعلم أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران، فهي بحيث تشد عن الحصر و لا يأخذها العد"( )، و يؤكد أن تقسيم العمل بين الأفراد يؤدي بالضرورة إلى زيادة مردوديته.
كما أشار إلى فكرة تقسيم العمل الدولي، من خلال تخصص دول بعينها في منتوج محدد، فأساس الــصناعة هو التخصص و تقسيم العمل، و قد خصص أحد فصول المقدمة للتفصيل في هذا الجانب بعنوان ( في اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون البعض الآخر) ( )، و هو بذلك يكون قد تعرض إلى ما أصبح يعرف حديثا بنظرية التجارة الدولية أو التخصص الدولي، و في تفسيره للأسباب ذلك يرى أن الاختلاف في ظروف إنتاج بين بلد و آخر، يعطي دولا ميزة نسبية في إنتاج معين يجعلها تنتجه بوفرة و بأقل التكاليف مقارنة بدول أخرى.
- نظرية القيمة عند ابن خلدون:
يعتقد ابن خلدون بأن العمل البشري هو أساس قيمة الخيرات، فللإنسان حاجيات لابد من أن يكد و يجتهد للحصول عليها، و لقد أشار لوجود بعض الخيرات التي يحصل عليها الإنسان دون مجهود يقدمه مثل الأمطار( )، غير أنه أشار إلى جانب العمل كأساس لقيمة الخيرات، أن المنفعة شرط ضروري للقيمة، أي أنه لكي يكون للسلعة قيمة بين الناس يتعين أن تكون مطلوبة اجتماعيا